دولتنا دولة دكتاتورية
مدّة القراءة : 4 دقيقة
حدثان بارزان شهدهما الأسبوع الماضي في هذه الفترة من الحجر الصحّي الشامل.. أوّلهما قرار وزارة الفلاحة الترفيع في تسعيرة الماء بنسب فوق الخيال وثانيهما التصريح الذي أدلى به طارق الشريف بخصوص التخفيض في أجور موظفي الدولة غير المباشرين.
هذان الحدثان يؤكدان أن الدولة التونسية هي دولة دكتاتورية للنخاع لكنها بلا روح.. ونحن هنا نتحدّث عن الدولة وليس عن الحكومة أو عن النظام القائم أو المنظومة. فما المقصود من عبارة دولة؟ إنها تلك الآلة الضخمة المكوّنة من حكومة وجيش وقضاء وقوات الأمن ووزارات وأداءات ضريبية وصناديق إجتماعية وولايات ومعتمديات… إلخ. هذه الآلة الضخمة حتى وإن وضعنا على رأسها أكثر القادة عدلا وديمقراطية فإنها ستهزمه حتما. فآلة الدولة أقوى منا جميعا لأنها تستمد شرعيّتها منّا جميعا أي من المواطنين.
لكن ماهي العلاقة بين هذين الحدثين والدولة؟ وزير الفلاحة قرّر الزيادة في تسعيرة الماء بنسب تجاوزت 55 بالمائة دون أي إعلام مسبق. فقد اتخذ القرار وما علينا إلا السمع والطاعة فلا خيار لنا في مناقشة القرار لأن الدولة تحتكر توزيع المياه وبما أنها هي المحتكر فهي التي تقرّر.
ليست النسب وحدها التي كان غير لائقة بل توقيت اتخاذ القرار أيضا في فترة تجد طائفة كبرى من التونسيين أنفسهم محرومين من أي مورد رزق أو مداخيل. فالحكومة تبدو واعية بهذا الأمر وهي تقول إنها بصدد البحث عن الحلول المناسبة لمساعدة المؤسسات والشركات وعمّالها وكل الفئات التي تضررت من أزمة كورونا.. لكن الحكومة في الواقع عوض أن تقدّم المساعدات لهم، قررت الترفيع في الأسعار وذلك تحت الضغط الكبير الذي تمارسه عليها آلة الدولة وقوتها الهائلة.
ولتبرير هذا الإجراء،أوضح مصباح الهلالي، الرئيس المدير العام للشركة المحتكرة لتوزيع المياه (الصوناد)، أنّ الزيادة لن تشمل 43 بالمائة من السكان (أرجوكم صدّقوه) وأن الموارد الحالية للشركة لا تغطّي سوى 65 بالمائة من كلفة الإنتاج (أرجو أن تصدّقوه أيضا).
لو كان الوضع كذلك، لماذا لا يتم الخوض في الأمر على نطاق واسع وفي حوار عام يطّلع على حيثياته عامة الشعب؟ لماذا يواصل التونسي في المساهمة بنسبة 35 بالمائة من سعر الماء؟ لماذا لم يتم الإبلاغ مسبقا عن قرار الزيادة وفي كنف الشفافية المطلقة؟
الدولة تقرّر وكفى. هذه عقلية الدولة القوية المتجبّرة.. وهذا ما يجب القطع معه والتخلّص منه، دون تعطيل آلة الدولة بالطبع. لكن كيف؟ السبيل إلى ذلك يكون عبر فرض قوانين جديدة على الدولة؛ قوانين مواكبة لروح العصر وتكون في خدمة المواطن.
لماذا علينا التعويض عن سعر الكهرباء والماء في حين أنه العديد منّا ليسوا في حاجة إلى هذا التعويض؟ فبدلا عن تقسيم الفوترة إلى مستويات حسب الإستهلاك، بإمكان شركتي الصوناد والستاغ اعتماد أسلوب آخر في الفوترة حسب المناطق.. لماذا يدفع من يقطن في حي راق، حيث يتجاوز المتر المربع 2000 دينار، السعر ذاته مثل ذاك الذي يقطن في حي شعبي؟ لذلك يكون من الأرجح اعتماد تقسيم جديد يعتمد على قيمة العقارات ويتم مراجعته كل عشر سنوات وبالتالي نستغني نهائيا عن مسألة التعويض في ما يخص الكهرباء والماء دون أن يحتج أي كان. قد يعتبر البعض أن هذا الإجراء غير عادل لكن الحيف يكمن في طريقة الفوترة الحالية بما أنّ رب عائلة معوزة تتكوّن من طفلين أو ثلاثة سيجد نفسه مجبرا على خلاص فاتورة مرتفعة أضعاف المرات مقارنة بشخص ثري يعيش بمفرده.
لكن هذه الفكرة مرفوضة من الدولة لأن موظفيها يرفضونها ويمنعون الحكّام من تنفيذها.. ففي معظم الحالات، إطارات الدولة هم من يسكنون الأحياء الراقية (وهم من يقررون تقسيم الأحياء) وبالتالي لن يقبلوا بتطبيق فكرة تتعارض مع مصالحهم الخاصة.
أما الحدث الثاني الذي شهده الأسبوع المنقضي فهي مسألة الخصم من رواتب وأجور موظفي الدولة غير المباشرين وغير النشطين خلال الفترة الحالية. محمد عبّو، الوزيد فوق العادة المكلف بالحوكمة، تصرّف كما لو كان (وزير دولة)، هذا الصباح على موجات الإذاعة الوطنية، دون أي تدخل أو اعتراض من محاوره حاتم بن عمارة (منشّط دولة). وهذا يعكس بوضوح ملامح المشهد الحالي وعقلية بعض الوزراء الذين يفضّلون المنشطين على الصحفيين.
فما الذي فعله محمد عبّو؟ بسُؤاله عن مسألة أجور الموظفين أجاب عبّو بأنه لا يمكن التخفيض في رواتب الموظفين لأن الدولة هي من طلبت منهم البقاء في بيوتهم وهذا ما ينص عليه القانون حسب الوزير الذي يستعد اليوم لحضور مجلس للوزراء سيفضي إلى إقرار مراسيم جديدة.
وهكذا كان محمد عبّو وزيرا للدولة عوضا عن أن يكون وزيرا للجمهورية.. فهو فضّل الدفاع عن خيارات الدولة وموظفيها عن أن يدافع عن المواطنين التونسيين.
في السابق كان محمد عبّو مدافعا شرسا عن الحق والعدل لكن كان هذا في عهد ولّى وانقضى.. وزير الدولة نسي أن هذه الدولة ذاتها هي التي طلبت من أصحاب المؤسسات أن يبقوا في بيوتهم على غرار الموظفين. لكن ببقائهم في منازلهم وجد أصحاب الشركات أنفسهم عاجزين عن خلاص أجور أعوانهم وعمّالهم دون أن تعلن الدولة إلى يومنا هذا عن أي قرار لفائدتهم.
هذه الدولة هي ذاتها التي طلبت من المحامين والمهندسين المعماريين والمحاسبين والعملة اليوميين والتجار وأصحاب المطاعم والمقاهي والعاملين فيها، أن يبقوا في بيوتهم. لماذا يلتزم كل هذا الخلق (يمثلون الأغلبية الساحقة) بإجراءات الحجر الصحّي الشامل دون أي مدخول أو مورد رزق واحد، في حين يحافظ الموظفون (قابعون في بيوتهم أيضا بطلب من الدولة) على رواتبهم كاملة؟ دون الحديث عن باقي الموظفين (الصحّة، الدفاع، الداخلية) الذين يعملون بشكل مضاعف لكنهم يقبضون نفس الأجور التي تسلمها من لم يعملوا أصلا. هل هذا هو العدل يا سي محمّد عبّو؟.. هكذا تتجلّى قوة الدولة لذلك تحدّثت عن دكتاتورية الدولة، لأن حتى المدافعين عن العدالة الإجتماعية هم اليوم في مناصب جعلت منهم جبابرة بفرضهم على المواطنين خيارات لا تفرض على موظفي الدولة.
هناك عشرات الأمثلة التي تعطي فيها الدولة أسوأ الأمثلة في طريقة تصرفها.. ومن بينها على سبيل المثال قرار العمل بنظام الحصة الواحدة.. منذ سنوات لم تعد المؤسسات التي تحترم نفسها تطبّق هذا الإجراء،لأن موجات الحرارة المرتفعة التي كانت وراء هذا القرار لم تعد سببا مقنعا بعد انتشار مكيفات الهواء على نطاق واسع.
العمل عن بعد مطبّق منذ أعوام في القطاع الخاص لكنّه يبقى لغزا بالنسبة إلى موظفي الدولة.
كثر الحديث عن التجارة الموازية والتهرّب الضريبي وعن أداء إضافي على المرابيح وغيرها من الأفكار والمقترحات الكفيلة بضخ مزيد من المال في خزينة الدولة كحل بديل لمواجهة هذه الأزمة. لكن ما ذنبي أنا كمواطن بسيط إذا كانت الدولة وقفت عاجزة أمام التجارة الموازية والمتهربين الضريبيين أو من خلال تعويضات بآلاف الدنانير لفائدة أشخاص لا يسحقونها ولم يطلبوها أصلا؟ ماهو ذنبي إذا كانت الدولة تنتج أقل من الخواص وإذا كانت آلة الدولة ينخرها الصدأ وهي ترفض تصحيح الوضع؟ لماذا يُطلب دائما من دافعي الضرائب وخاصة من يكدّ وينجح، بأن يدفعوا ضريبة قرارات الدولة؟.
صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وثلة من الخبراء التونسيين يجمعون على أنّ عدد الموظفين ضخم جدا.. كلهم أجمعوا على أنّ جهاز الدولة مكلف جدا وأنه لا بد من تخفيف التكاليف. لكن لا أحد من بين حكّام ما بعد الثورة نجح في تحقيق ذلك. كلهم بمن فيهم محمد عبّو هذا الصباح، تجاهلوا وتنكّروا لمبادئهم وأفكارهم، خدمة لمصلحة آلة الدولة وحماقتها، على حساب المنطق والفكر السليم والعدل والمنتوجية والنجاعة.. وخاصة على حساب المواطنين والدولة نفسها..!
تعليقك
Commentaires