النهضة لم ولن تتعظّ من أخطائها واستقالة العذاري أكبر دليل
المشاورات من أجل تشكيل الحكومة المقبلة بلغت يومها الثاني عشر من قبل رجل النهضة المُكلّف بتشكيل الحكومة الحبيب الجملي وقد التقى بمختلف ممثلي الأحزاب السياسيّة وممثلي المنظمات الوطنيّة.
الكلّ أصبح يتزاحم لتقديم ممثلي أحزابهم للمشاركة في الحكومة القادمة والفوز بأحد الحقائب الوزاريّة، ونجد الجملي يؤكّد على حكومة كفاءات بعيدا عن المحاصصة الحزبية. التيار الديمقراطي على الرّغم من مشاوراته مع الجملي بقي متمسّكا بوزارات السيادة، العدل والداخلية ووزارة الإصلاح الإداري. ولكن يبدو أنّ حركة النهضة رافضة لهذه الشروط وهو ما اتّضح بعد إعلان القيادي بالحركة أنّ النهضة تريد الحصول على وزارات السيادة وهما الداخلية والعدل. كما أنّ رئيس حزب الرحمة الاسلامي والنائب بمجلس نواب الشعب سعيد الجزيري أكّد في نقطة صحفية عقب لقائه بالجملي أنه اقترح أن تكون وزارة الصّحة من نصيب حزب الرحمة.
من أجل ضمان قوّة التموقع في البرلمان وفي الحكومة القادمة، امتزجت الأحزاب وتقاربت منها من أعلن التموقع في المعارضة مثل حركة تحيا تونس والدستوري الحرّ وحزب قلب تونس ومنها من وحّد قواه لتعزيز تموقعه في البرلمان مثل حركة الشعب والتيار الديمقراطي، الحزبيْن اللذين قاما بتشكيل ''الكتلة الديمقراطية'' والمتكوّنة من 41 نائبا لتكون ثاني أكبر كتلة في البرلمان بعد كتلة حركة النهضة المتكوّنة من 54 نائبا بعد أن انضمّ كلّ من شكري عمارة نائب عن زغوان وأحمد بلقاسم نائب عن قفصة للحركة.
حركة النهضة الفائزة في التشريعيّة والتي تمتّع رئيسها راشد الخريجي الغنوشي برئاسة مجلس نواب الشعب بعد أن اتفقت الحركة مؤقّتا مع قلب تونس ليساندها في التصويت ثمّ انقلبت بكلّ عدائية عليه وأكّد قياديي الحركة أنّ حزب نبيل القروي لن يشارك في الحكومة المقبلة نظرا لشبهات الفساد المتعلّقة به، حتى أنّ القيادي في حركة النهضة عبد اللطيف المكي دعا قلب تونس إلى أن يُزيل عن نفسه شُبهات الفساد وأن يرضخ للقضاء. هذه الحركة الإسلامية التي تتدّعي التوازن والتماسك بين قياداتها وتتباهى بأنّ النهضة هي الحزب الوحيد الذي لم تتزعزع قواعده على الرّغم من كلّ التغيُّرات والتجاذبات السياسية، أصبحت محلّ نقاش الرأي العام حتى أنّ الكلّ بات متخوّفا من مواصلة تغوّلها في الحكم وذلك بتعمّدها حصد حقائب وزاريّة مهمّة.
هذا التوازن الوطيد لا أساس له من الصحّة، فالحركة شهدت على مرّ سنوات انقسامات واستقالات متتالية من جانب قواعدها وقياداتها في مختلف المواقع بهياكلها. في معظم الأوقات تجد قرارات قائد القبيلة القائمة على التميّيز والمحاباة رفضا من قبل أهم القيادات ليصل بهم الأمر إلى مغادرة القبيلة وإعلان العصيان على كبيرهم ويختارون الإلتحاق بقبائل أخرى أو البقاء رحّل وأحرار من كلّ القيود. فالنهضة نظامها شبيه بنظام القبيلة المعروف عنها باتفاق مجموعة من الأشخاص على ثقافة متجانسة ويميّزهم تضامن مشترك ضد العناصر الخارجية.
النهضة اليوم تعيش على نيران صديقة وخافتة، وما إن احتدّ النقاش داخلها على هويّة القيادات الذين سيختارهم قائدهم الغنوشي ليتمتّعوا بأحد الحقائب الوزاريّة، احتدمت النيران وآتت أُكلها مبكّرا. النائب عن الحركة بالبرلمان زياد العذاري كان أوّل من أعلن الرفض لقرارات الغنوشي وأعلن الإستقالة من كافة مسؤولياته بالحركة، أمانة عامة وعضوية المكتب التنفيذي وذلك في تدوينة نشرها على حسابه الرسمي بالفايسبوك يوم الخميس 28 نوفمبر 2019.
تقدّم العذاري بهذه الإستقالة لرئيس الحركة راشد الغنوشي منذ الأسبوع الفارط، وأعلمه أنّه لم يعد معنيا في المستقبل بأيّ خطّة أخرى في قيادة الحزب أو الكتلة أو أيّ مسؤولية في الحكومة القادمة ولكنّ الغنوشي رفض الإستقالة. العذاري بقي مُتمسّكا باستقالته نظرا لعدم ارتياحه للمسار الذي أخذته البلاد منذ مدّة وخاصّة عدم ارتياحه للقرارات الكبرى التي اتّخذتها النهضة في الفترة الأخيرة، وأهمّها اختيار الحبيب الجملي رئيسا مكلّفا بتشكيل الحكومة. وفقا لنصّ إستقالة العذاري، فإنّ اختيار الجملي لتشكيل الحكومة لم يكن موفّقا لأنّه لا يجد في الجملي الشخصية المستقلة المشهود لها بأعلى درجات الكفاءة والنزاهة لتجمع أكبر طيف ممكن من التونسيين وتكون قادرة على استعادة الثقة في الداخل و تعزيز إشعاع تونس في الخارج.
''الزلقة بفلقة'' بهذه العبارة أشار زياد العذاري إلى أنّ حركة النهضة بصدد إعادة نفس أخطاء الماضي، مفيدا أنّ الحكومة القادمة هي الفرصة الأخيرة للبلاد والتي يجب أن تكون حكومة إصلاح وانجاز ويجب على النهضة أن تتعظ فيها من أخطاء الماضي، بعيدا عن المحاصصة والهواية في العمل. بالنسبة للعذاري، فإنّه لم يعد قادرا على الخضوع لقرارات النهضة التي ستضع البلاد على سكّة محفوفة بالمخاطر لا نعرف تداعياتها و كلفتها. العذاري أكّد أنّ ما زاد في تمسّكه بقرار الإستقالة هو عدم تمكّنه من إقناع مؤسّسات الحزب بتغيّير أو تعديل خيارات الحركة بشأن ملف تشكيل الحكومة المقبلة الذي تقدمت به لرئيس الحكومة المُكلّف الحبيب الجملي، واعتبر العذاري أنّ تلك الخيارات لا ترتقي إلى انتظارات التونسيين و لا إلى مستوى الرّسالة التي عبّروا عنها في الانتخابات الأخيرة بل هي أقرب إلى ''استعادة نفس أخطاء الماضي''.
وخلال استضافته في برنامج رونديفو على قناة التاسعة يوم الجمعة 29 نوفمبر 2019، شدّد العذاري على أنّ قرارات النهضة خاطئة خاصّة باختيار الجملي لتشكيل الحكومة قائلا '' الحبيب الجملي لم يكن الإختيار الموفّق لحركة النهضة في قيادة المرحلة القادمة''. كما بيّن في حواره أنّه ضدّ الهيمنة السياسية على كلّ المناصب، كما أنّ رئاسة الحكومة تستوجب القدرة على الدفاع وفهم ملفات معقدة وتحمّل ضغوطات والوقوف ضدّ اللوبيات ومعرفة كبيرة بدواليب الدولة. وأوضح أنّ المرحلة لا تحتمل "الهواية" في إحالة إلى الجملي الذي "لا نعرف عنه شيء" في مقابل اقتراح أسماء ذات كفاءة . "الشعب يريد نتائج ملموسة والنهضة أخطأت وأخفقت في حقّ الدولة ويجب أن لا تواصل نفس السياسات''.
استقالة وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي السابق زياد العذاري، من حركة النهضة ليست الإستقالة الأولى الفريدة من نوعها داخل الحركة التي تتدّعي القوّة واللّحمة. يوم الثلاثاء 17 سبتمبر 2019، قدّم القيادي في حركة النهضة زبير الشهودي إستقالته من الحركة وأعلن عن إنهاء كلّ مهامه القياديّة بها ودعا رئيس الحركة راشد الغنوشي إلى إعتزال السياسة، وتوجّه في رسالة إلى إخوانه في حركة النهضة بالإعتذار لأنّه إنتقد رئيس الحركة راشد الغنوشي بعد إقحامه لصهره رفيق عبد السلام ولقيادات فاسدة قامت بتدليس إرادة الناخبين، ودعا في رسالته الغنوشي إلى ضرورة أن يعتزل السياسة، قائلا '' أطلب منه اعتزال السياسة وأن يلزم بيته ومحرابه''.
يوم 19 جويلية 2019، أعلن القيادي الجهوي بحركة النهضة في قفصة علي الشرطاني، عن استقالته من الحركة و"انسحابه نهائيا من تنظيمها"، قائلا "إن قيادة حركة النهضة عبّرت بكل وضوح عن سياستها الإستئصالية تجاهه دون مبرّر يذكر ودون أي حرج ولا أي توضيح". الشرطاني القيادي بالحركة منذ 40 سنة، أفاد أنّ السبب وراء استقالته يعود إلى عدم رغبة قيادة الحركة في استمرار وجود الأحرار في صفوفها كما وصفها باللاّديمقراطية. لم تتوقّف الإستقالات عند هذا الحدّ، حيث أعلن القيادي الشاب بحركة النهضة محمد غراد،يوم الأحد 16 جوان 2019، عن استقالته من مسؤولياته ضمن مكتب العلاقات الخارجية لحركة النهضة معلنا عن موقفه الرافض لتنقيح القانون الانتخابي بنية قطع الطريق على أشخاص بعينها رغم اتفاقه مع مبدأ تنقيح القانون.
كذلك شهدت الحركة يوم 25 جويلية 2019، استقالة عضو مجلس شورى حركة النهضة، حاتم بولبيار المنتمي لها منذ ثماني سنوات، بعد أن انتقد في وقت سابق القائمات الانتخابية لحركة النهضة وتعديلات المكتب التنفيذي بعد تغيّيره لأسماء رؤساء القائمات التي تمّ انتخابها بطريقة ديمقراطية. كما قدّم في نفس اليوم حافظ الوسلاتي الكاتب العام للمكتب الجهوي لحركة النهضة بالقيروان باسمه وباسم المكتب الجهوي استقالتهم إلى المكتب التنفيذي للحركة على خلفية القائمة المقترحة للانتخابات التشريعية معتبرين أنّها مسقطة. أيضا تخلّى لطفي زيتون عن صفته كمستشار سياسي لراشد الغنوشي يوم 8 جويلية 2019. وبالعودة لسنة 2013، نجد أنّ عضو مجلس الشورى رياض الشعيبي قدّم إستقالته في نوفمبر 2013 رافضا نتائج الحوار الوطني، وفي مقال له في الموقع الإلكتروني ''الجزيرة نت'' أكّد فيه أنّ قبول حركة النهضة بالتسوية مع أطراف المعارضة في جلسات الحوار الوطني يعدّ تنازلا منها لصالح الإنقلابيين على حد قوله.وفي مارس 2014، قدّم رئيس الحكومة الأسبق، حمادي الجبالي إستقالته من الأمانة العامة لحركة النهضة والتي كان يتولاّها منذ 2012.
استقالات متتالية ومتعدّدة لقيادات وهياكل النهضة رفضا لقرارات زعيم الحركة راشد الغنوشي الذّي يشهد له باستعداده لإقصاء من يُعرقل طريقه لفرض قراراته واستحواذه على الحكم. الصراع داخل حركة النهضة يعكس صورة البرلمان ومدى قوّة النزاع الذي سيكون بين الأحزاب ورئيس البرلمان الغنوشي. النهضة لم تنجح في الحفاظ على قواعدها وهياكلها، واليوم تسعى للحصول على وزارات السيادة، الداخلية والعدل، في تونس وللكلّ التكهّن بالمصير الكارثي الذي سيُصيب بلادنا.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires