سيكون هناك ما قبل "الكورونا" وما بعدها .. وستتغيّر عاداتنا إلى الأبد
عيش تونس يومها الثاني تحت الحجر الصحّي الشامل ويبدو أن الأغلبية منضبطون وملتزمون بالإجراءات ذات الصلة.. بفضل جهود السلطات ووسائل الإعلام وبحكم ما يجري في كامل أرجاء المعمورة، يجد التونسي نفسه اليوم على قدر كبير من الوعي، متسلّحا بالمعلومات الضرورية.. فهو حين يتم إقناعه بشكل سليم، يعرف كيف يتحلّى بروح المسؤولية وبالسلوك الحضاري. فالمسألة بيداغوجية واتصالية بالأساس.. حين نقارن كيف تم التعامل مع هذه الأمور في القصبة وفي قرطاج نجد أن الفرق واضح من الناحية الاتصالية.. ومع ذلك مهما كان الاتصال الحكومي جيدا فإنه يظل منقوصا وغير كاف. لذلك ستبقى هناك دائما أسئلة واستفسارات ومطالبات وملاحظات وانتقادات.
بخصوص الحجر الصحي وبالنظر إلى ما يحدث في أماكن أخرى من العالم فإن المطالب لا حد لها، بعضها مشروع والبعض الآخر غير معقول.. فتطبيق الحجر الصحي الشامل بدقة وصرامة مع الاستجابة لحاجيات المواطنين والأخذ في الاعتبار الحالات الخاصة والاستثنائية، ليست أمرا هيّنا بل هي مسألة صعبة ومعقّدة. فالبعض يريد أجوبة دقيقة على كل الأسئلة من قبيل: ماذا نفعل مع كلب الأسرة؟ هل نخرجه أم لا؟ وماذا يفعل الأبناء حين يكون الوالدان مطلقين؟ فهل يمكثوا عند الأب أو الأم أو مع الأجداد الذين يقطعون أحيانا في أحياء متباعدة؟ وماذا نفعل بخصوص النشاط الرياضي المفروض من الطبيب بالنسبة إلى البعض أو من حيث اتباع تعليمات السلوك القويم في علاقة بالنظافة الشخصية لكل فرد؟ وماذا يفعل العامل اليومي الذي لا يجد نفسه مشمولا بالقرارات الرئاسية والحكومية؟ كل هؤلاء الأشخاص سيجدون أنفسهم أمام رجال شرطة محتارين كيف سيطبقون الأمر الرئاسي المتعلق بمنع الجولان على الأشخاص والعربات إلا عند الضرورة.
فما هو الضروري سيدي رئيس الجمهورية ؟ كيف يمكن تحديد تلك الضرورة سيدي الرئيس والسادة الوزراء؟ تفسيركم وتأويلكم للأمر 156 / 2020 يختلفان عن مفهوم الضروري عند المواطنين، فرؤية أبنائي هي أهم شيء بالنسبة إلي، لكن قد يكون الخروج في نزهة أهم من الذهاب إلى الطبيب بالنسبة إلى جارتي في حين قد تكون قارورة الجعة هي الأهم في نظر جاري.. جميعهم واعون بخطورة التجمع والتجمهر ولديهم فكرة واضحة عن الفيروس وطريقة تفشيه ولا يحتجون على التعليمات الخاصة بالحجر الصحي.
غير أن هذا الحجر الشامل بالنسبة إليهم وكل المواطنين ينبغي أن لا يتحوّل إلى سجن.. فهم يريدون من الدولة احترام حرياتهم مثلما يحترمون هم الدولة وأوامرها وقراراتها، فليس من حق الدولة وممثليها حرمان الناس من حرياتهم الأساسية بما أن تلك الحريات لا تتعدّى على حرية الآخرين ولا تشكل أي خطر على أي كان. من حيث الخطورة فإن أخطر إنسان في تونس اليوم هو بلا شك رئيس الجمهورية، قيس سعيّد بهذا الأمر الفضفاض وغير الدقيق والذي يمكن لكل شخص أن يفسره ويؤوله كما يحلو له أو بقراره الذي اتخذه بشكل فردي والمتعلق بحظر الجولان والذي يبدو أنه لم يدرسه بالشكل الكافي قبل أن يعترف بمحدوديته وإسكالياته. سيدي الرئيس حين نرتكب هفوة ثم نعترف بها فعلينا أن نصلحها.. أما إذا تعمدنا الاستمرار في تلك الهفوة فإنها تصبح خطأ شنيعا من قبيل العمل الإجرامي.
وأمام كل هذه التلعثمات والأخطاء التشريعية صارت حكومة إلياس الفخفاخ مطالبة بإيجاد الحلول والأخذ في الاعتبار القائمة اللامتناهية من الاستثناءات والإعفاءات والتي قُدّمت على أنها أساسية في فترة الحجر الصحي.. لا بد على الحكومة أن تجد حلا وسطا ما بين السجن الذي يقترحه علينا قيس سعيّد والتراخي الذي بدا على الإدارة التونسية التي ذهبت إلى حد السماح بمواصلة أنشطة مصانع اليخوت والدراجات، بتعلة أنها مؤسسات مصدرة .. صراحة حكامنا يتصرفون أحيانا بأساليب يرثى لها.
قائمة المطالب إذن لا نهاية لها وهناك أولويات. والسؤال الذي لا جواب له عند كل رؤساء الدول ماهي الأولويات وكيف التعامل معها؟ .. هل هي الصحة؟ أم الأمن؟ أم المؤسسة؟ أم الشعب؟ .. إلياس الفخفاخ عليه أن يأخذ كل هذه الأمر بعين الاعتبار ويعرف تحديد الأولويات .. وهنا تكمن كل الصعوبة .. لذلك كانت كلمته ليوم 21 مارس دون المأمول وتحت سقت انتظارات الكثير من اليساريين والنقابيين الذين يعيبون عليه تركيزه على المؤسسات، على حساب الشعب والطبقة الوسطى.. بعض التونسيين وفي مقدمتهم رئيس الدولة يبدو أنهم لم يستوعبوا أهمية رأس المال والبنوك والمؤسسات .. وهنا أيضا لا بد من مجهود اتصالي لتفسير دواعي تحديد الأولويات الحكومية.
في مثل هذه الجائحة، فإنه من الطبيعي والحتمي أن نجد الصحة والأمن على رأس قائمة الأولويات ولكن الصحة والأمن يفقدان أهميتهما إذا جاع الشعب وصار غير متأكد إن كان مشغّله سيصرف له مرتبه في نهاية الشهر ؟..
المستشفيات والموظفين بحاجة ماسة إلى الدولة ليضمنوا نجاتهم .. والدولة بحاجة أكيدة للضرائب والأداءات التي تدفها المؤسسات حتى تتمكن من صرف أجور الموظفين .. والمؤسسات بحاجة إلى الناس لتقدر على دفع الضرائب.. والشعب بحاجة إلى العمل حتى يتمكن من الحصول على رواتب .. لكن الشعب ممنوع من الذهاب إلى العمل وفي هذه الحال تصبح المؤسسات بحاجة إلى البنوك لتمويلها، إلى أن تمر الأزمة وبحاجة إلى إعفائها من الضرائب حتى تتمكن من خلاص العمال .. هذا الحديث المبسّط إلى أبعد الحدود هو الذي لا يستوعبه كثير من اليساريين والموظفين والنقابيين الذين يعتقدون أن المؤسسات نائمة فوق المال .. الفكرة التي يجب أن تصل لهؤلاء وغيرهم هي أ، المؤسسات في تونس هي بالأساس مؤسسات صغرى ومتوسطة وأن معظم المؤسسات الصغرى هي مقاهي ومحلات لبيع البيتزا وعطريات صغيرة ومحلات نجارة تشغل حوالي عشرة أشخاص أما المؤسسات المتوسطة فتشغّل ما يقارب الخمسين من الإطارات العليا.
إلياس الفخفاخ ومن منطلق معرفته الجيدة لهذا الواقع، اتخذ قراراته آخذا في الاعتبار الأولويات الوطنية ومصلحة الشعب. لكن مع ذلك عليه أن يراجع رزنامته من خلال الأخذ بعين الاعتبار شح الموارد المالية للمؤسسات، لأنه لم يراع غير خزينة الدولة لذلك طالب بدفع الأداءات الجبائية لشهر فيفري فورا والتغطية الإجتماعية للثلاثية الأول فورا كذلك وهذا أمر مستحيل.. وهنا أذكره بما كتبته الإثنين الماضي، بأنه في صورة لم تساعد الدولة المؤسسات فلن يكون هناك أجور في نهاية الشهر.. هناك احتمال كبير أن تكون عديد المؤسسات قد انتهى أمرها مع قدوم آجال دفع مستلزمات التغطية الإجتماعية بعنوان الثلاثية الثانية.
هذه الأزمة الحادة التي نمر بها اليوم ستغير من نظرتنا لعديد الأمور ، سواء كنا عاطلين عن العمل أو عمال أو موظفين أو أجراء أو إطارات أو مهن حرة ... علينا أيضا أ، نغيّر من أولوياتنا وعاداتنا بعد هذا الحضر الصحي الشامل وهذا الخطر الذي يتهدد البعض بالإحالة على البطالة والإفلاس للبعض الآخر والموت لآخرين غيرهم.
بعد هذه الأزمة التي سنتجاوزها دون أدنى شك، سيخسر البعض كثيرا بسبب عدم تحملهم المسؤولية (أمثال قيس سعيّد ولطفي المرايحي والكثير من المؤسسات على سبيل المثال) في حين سيتعزز رصيد الثقة في آخرين بفضل شعورهم بالمسؤولية وحسن إدارتهم (على غرار إلياس الفخفاخ واتحاد الشغل ومنظمة الأعراف).
نحن على يقين أكثر من أي وقت مضى بأن الأوضاع ستتغير بعد انتهاء الأزمة وهذا يسري على البشرية جمعاء وليس التونسيين فقط.
هذا الحضر الصحي جعلنا، رغما عنا، نراجع أنفسنا وحساباتنا .. البعض انكبوا من جديد على المطالعة (مثل رئيس تحرير بيزنس نيوز) والبعض الآخر على مشاهدة الأفلام والمسلسلات وآخرون شغلوا أنفسهم بالطبخ أو بممارسة الرياضة أو الرقص أو العمل عن بعد .. فيما غرق غيرهم أكثر في البطالة والعطالة.
بعد انقضاء الأزمة سينظر الجميع إلى الحرية وحرية التجوّل والتنزه نظرة مغايرة .. ستكون نظرتهم للدولة ولدورها مختلفة .. سيغيرون مواقفهم من التكنولوجيا ودورها في حياتنا .. هذه الأزمة ستساعد سكان المعمورة قاطبة على إعادة ترتيب أولويات الحياة والنظر بطريقة مختلفة لأولويات الماضي.. في السابق كان الشخص الثري الذي لا يعرف ما يفعل بأمواله، يشيّد جامعا ويؤثثه بمكيفات الهواء والثريات المستهلكة للطاقة ويجبر الدولة على تعهده بالصيانة .. غدا سيفكّر هذا الثري في بناء المستشفيات وتجهيزها بغرف الإنعاش العصرية لإنقاذ حياته إذا تعرض لوعكة صحية. حتى نظرتنا للعمل ستتغيّر وهناك من سيراجعون ذاك الشعار الشهير (الغالي على نفسي) "نعمل أكثر لنكسب أكثر" .. أمام الموت المحدق بنا والمخاطر التي تتهددنا وهشاشة دولتنا، ستتغير نظرتنا للحياة .. ندعو بالشفاء العاجل لكل المصابين والمرضى ودعواتنا بالرحمة على أرواح من فارقونا بسبب هذا الوباء.
ملاحظة: الشكر الخالص لجميع قرائنا وتحية لكل الفريق العامل معي على إثر النتائج التي حققتها "بيزنس نيوز" خلال الأيام القليلة الماضية في فترة الحظر الصحي فقد تضاعفت نسبة مقروئيتنا ثلاث مرات، لتبلغ معدل 140 ألف زيارة يوميا إلى موقعنا وهو رقم في ارتفاع مطرد.. وليعلم قراؤنا الكرام حتى ,إن كان هذا شأنا داخليا، فإن صحفيي "بيزنس نيوز" يعملون عن بعد من بيوتهم منذ ثمانية أيام وقد كان أداؤهم رائعا لذلك ازدادت أعداد قرائنا فشكرا جزيلا لهم ولكم.
تعليقك
Commentaires