النوّاب الخوانجية يريدون دخول الجنّة بأموال الشعب
قد يبدو للبعض أننا نكرّر أنفسنا حين نتباهى بما نحققه أحيانا من إنجازات لكن نقول مجددا إننا عشنا يوم الجمعة الماضي لحظة ديمقراطية جميلة، فتسليم رئيس حكومة المهام لرئيس حكومة آخر كلاهما منتخب من برلمان منتخب بدوره من الشعب ليس أمرا بديهيا في الدول العربية الإفريقية أو في بلدان الوطن العربي والإسلامي.
لن نملّ من تكرار هذا القول لأننا بصدد عيش لحظات تاريخية رغم كل انقساماتنا واختلافاتنا. فهذا ما سنورثه لأبنائنا.. فهم لن يقبلوا أبدا أن نفرض عليهم حكومة ما (سواء كان على يشرف عليها رئيس أو وزير أوّل) بتعلّة أن ذلك في مصلحتهم.. وهنا أستحضر مقولة لوينستون تشيرشل: "الديمقراطية نظام سيئ لكنها الأقل سوءا من بين كل الأنظمة". فرئيس حكومة منتخب سيئ أفضل من رئيس حكومة جيّد مفروض علينا.
حظا سعيدا لإلياس الفخفاخ فبالرغم مما قد يقال عنه، له الحق في مهلة المئة يوم. للحكم له أو عليه.
إذا فشل فنحن من سيدفع فاتورة فشله ونتحمّل المسؤولية لكن على نوّاب البرلمان أن يتركوه يعمل ولا يعرقلوه. ثم لا يأتي من يقول لنا: "على الإعلام أيضا أن يتركه يعمل" لأن وسائل الإعلام لم يمنعوا أبدا قانونا من المرور تحت قبة البرلمان فالإعلاميون يؤدون رسالتهم في نقل المعلومة والحقيقة وكشف الأكاذيب وتحليل الأوضاع.
خلال عملية تسليم المشعل التي تمت على مرحلتين: الأولى يوم الأربعاء بمنح النواب ثقتهم للحكومة والثانية بمناسبة تسليم السلطة، عشنا أفضل شيء في النظام الديمقراطي ولكننا عشنا أيضا الأسوأ فيه.. الأسوأ كان أولئك النواب غير الملتزمين الذين أبدوا الكثير من الكراهية والعنف والوقاحة.. في مقالاتهم الأسبوعية تطرّق سفيان بن حميدة وبنت طراد إلى هؤلاء النواب الذين يجلبون العار لتونس والتونسيين. بسبب تصرفاتهم يودّ البعض أن يكون للبلاد برلمان حقيقي فيما يريد آخرون حلّ هذا البرلمان.
هل هم على صواب أو مخطئون؟ فبحل البرلمان نكون قد قوّضنا الممارسة الديمقراطية وبالتالي إرادة الشعب.. وهذا أمر مرفوض طبعا.
نوّاب كتلة إئتلاف الكرامة بالأنا المتضخمة لديهم وتطرّف خطابهم لا يمكن تجاهلهم فهم يغضبون البعض ويبهرون البعض الآخر. وهذا الوضع ليس حكرا على تونس فكل الحركات ذات البعد القومي والمتصلة بالهوية تتشابه في العالم.. من مارين لوبان في فرنسا وصولا إلى دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية ومرورا بفيكتور أوربان هؤلاء الرجال والنساء بصدد اكتساح الميدان تدريجيا سواء في الانتخابات المحلية أو الجهوية أو الوطنية.. هنا في تونس لدينا سيف الدين مخلوف وعبد اللطيف العلوي ومحمد عفاس وهم لا يختلفون عن أولئك.. كذلك الشأن بالنسبة إلى رضا الجوادي وراشد الخياري وفيصل التبيني فهم إسلاميون متطرفون على يمين حركة النهضة ولا يختلفون في شيئ عن نظرائهم في الغرب باعتمادهم خطاب الإقصاء والحقد والكراهية ذاته لأشخاص لا يشبهونهم.. نفس الإرادة في فرض عاداتهم وتقاليدهم البالية على كافة الشعب. لكن لنبقى هنا في تونس مع ثقافتنا وإسلامنا الذي لا يختلف في جوهره عن الموروث اليهودي والمسيحي.. فالديانات السماوية الثلاث تحمل في طيّاتها التركيبة الجينية ذاتها فجميعها تسعى إلى فرض ذاتها بالقوة والإقتاع في قلوب البشر وفي إدارة شؤون المدينة.
فممثّلو هذه الديانات التوحيدية ومن نصّبوا أنفسهم للدفاع عنها، يريدون فرض تطبيق النظرية الدينية ليس لمزاياها وإنما لكسب مرضاة الله وتبوّؤ مكان لهم في الجنة.. جميعهم سيقولون لك إنهم يمتلكون الحقيقة وسيذهبون إلى الجنّة وأن الآخرين ذاهبون إلى نار جهنّم.. للحصول على السلام الداخلي يسعون إلى إشعال الفتن والحروب في المجتمع من خلال العمل (طوعا أو كرها) على تطبيق الرسالات الإلهية فوق الأرض. الإختلاف هو أن الغرب نجح نسبيا في فصل الدين عن شؤون المدينة في حين مازلنا نحن نعيش في القرون الوسطى. لا تقلقوا سيتحقق ذلك عندنا في يوم من الأيام لأنه ليس لأحد أن يفرض العقيدة والإيمان على غيره بالقوة والإقتاع.
من الأمثلة على ما سبق وهي عديدة؛ مداخلة محمد العفاس تحت قبة البرلمان في جلسة منح الثقة يوم الأربعاء الماضي.. فالرجل يريد أن يفرض غلق المقاهي والمطاعم في شهر رمضان ومنع غير المتزوجين من حجز غرفة في الفندق وتجريم المثلية الجنسية فضلا عن فرض الشريعة الإسلامية في البلاد. راقبوا أي حكومة يهودية أو مسيحية وستستمعون للخطاب نفسه.. فأقوالهم ومفرداتهم واحدة.
هؤلاء تسند لهم المنح من الضرائب لخدمة الدولة وصياغة قوانين تخدم مصالح الشعب وها أنهم بصدد النقاش حول العقيدة وفرض تعاليم الدين على الجميع! هم يريدون أن يتصرّف المجتمع كله على شاكلتهم وكذلك زوجاتهم وأبناؤهم.. هم يحلمون بأن يروا كل التونسيين يتضرّعون لله وأن يرتادوا المساجد ويمتنعون عن شرب الخمر. هم يريدون أن تتخلّى التونسيات عن جزء من حقهن في الميراث ويرتدين الحجاب ويعتبرن أنفسهن أقل شأنا من الرجل. هم لا يعتبرون أن شهادة المرأة تتساوى مع شهادة الرجل لأنه لا بد من شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد.. هم يعتبرون أن النساء ناقصات عقل ودين.. هم يريدون أن ينتحر المثليون الجنسيون أو يكتمون شهواتهم وأن يعلن الشخصان الحرب وليس الحب.
في ماذا يمكن أن تخدم هذه القناعات المجتمع أو الشعب أو البلاد؟ لا شيء ! ماذا ستكسب تونس والدولة بمنع شخصين عاشقين من ممارسة الجنس؟ لا شيء ! ماذا ستكسب تونس والدولة بتعسير الحياة على المفطرين؟ لا شيء ! في المقابل ماذا سيكسب أوربان والعفاس بخطابهم هذا؟ السلام الداخلي وتحقيق مرضاة الله من خلال أداء الواجب وإقناع الملايين من الأشخاص أمثالهم سيحققون هم أيضا السلام الداخلي واكتساب مرضاة الله بالتصويت لهم. فهم يعتبرونهم خيّرين وصادقين يمثلّون الله ورسوله في هذه الطبقة الحاكمة الفاسدة والملحدة.
أعلم بماذا سيردّون عليّ (وحججهم لا تقبل النقاش طبعا) حاولوا تطبيق شرع الله وسترون كيف سيصلح حال البلاد والعباد.. ونطرح عليهم السؤال التالي في المقابل: أعطونا بلدا واحدا نجح في تطبيق شرع الله؟ سيذكرون لنا عصر الخلافة لكنهم سيتعمّدون رواية التاريخ كاملا لأن التاريخ يكتبه المنتصرون.
كل المماليك التي شيّدت على أساس العقيدة الدينية أخذت نصيبها من القتلى والدماء والضحايا.. جميعها دون استثناء مرت بفصول من التعذيب والإغتصاب والتدمير.. وكلها اندثرت لأنها عجزت عن الصمود أمام عزيمة الفرد وإرادته في أن يعيش حياته بشكل طبيعي بعيدا عن تعاليم الآلهة.
منذ الأزل كان هناك مؤمنون وملحدون وهناك من يتضرّع لآلهة ما (سواء كانت إلاها سماويا واحدا أو في شكل كوكب من الكواكب) كما يوجد من يرفضون الإعتقاد والإيمان بهذه القصص "كلّنا نولد ملحدين قبل أن يأتي شخص يقص علينا بعض الخرافات"..
منذ الأزل كذلك تم الحكم بالموت على هؤلاء الذين يجرؤون على تحدّي الشريعة الإلهية والذين يشكّكون فيه ويجرؤون على نفي وجود الله أو يسيئون للرسول.
كذاك كان الحال في العصور الوسطى في البلدان ذات الثقافة اليهودية والمسيحية مثلما في الدول الإسلامية: فانتقاد الدين ومجرّد التشكيك فيه أمر مُحرّم ويستوجب العقاب الفوري. فالحكم على الملحدين بالموت هو الذي يمنع الناس من إعلان إلحادهم ويفسح المجال لأمثال العفاس ومخلوف بالقول إن المجتمع التونسي مسلم ويرفض العلاقات خارج إطار الزواج وشرب الكحول والجنسية المثلية وكل ما يحرّمه الدين.
ولئن كنّا فعلا مجتمعا مسلما بنسبة 100 بالمائة بحكم ثقافتنا (بما في ذلك مسيحيونا ويهودنا وملحدونا)، فإننا في حدود ما بين 10 و20 بالمائة من الملتزمين بممارسة العبادات. وخوفا من تنفيذ حكومة الإعدام، قلّة هم من أصيلي البلدان الإسلامية الذين يصرحون ويعلنون إلحادهم .. فتاريخنا الإسلامي زاخر بأحكام الإعدام وبالجرائم الفظيعة في حق مؤلّفين وشعراء وعلماء وفلاسفة.
في 1633 قال غاليلي "ومع ذلك الأرض تدور" مما كلّفه البقاء في السجن بحكم من البابا آنذاك لمجرد أنه قال إن الأرض تدور حول الشمس وهو ما اعتبر وقتها نظرية تدعو إلى الكفر وقد سيق الملايين إلى المشنقة لسبب أتفه من ذلك.
في دولنا الإسلامية، تاريخنا الذي يعود إلى 14 قرنا، مرّ به الآلاف من أمثال غاليلي والذين تم إعدامهم وإخماد أصواتهم وما زال الوضع متواصلا إلى غاية اليوم لأن لا أحد في هذا الزمن (زمن داعش والإرهاب الفكري)، تسلّح بالجرأة اللازمة ليصدح عاليا بإلحاده ورفضه للإسلام أو حتى المذهب السنّي.
سادتي نواب المجلس، نحن ندفع منحكم لتخدموا مصالحنا وتعزيز نموّنا والنهوض بصادراتنا والحد من البطالة، والتخفيف من مأساتنا ومن تخلّفنا والدخول بنا إلى القرن الحادي والعشرين. نحن لا ندفع لكم منحكم لتعودوا بنا إلى القرون الوسطى وتتدخلون في عقيدتنا وضمائرنا وفي ما نأكل ونشرب .. اخرجوا من غرف نومنا ومن قلوبنا واهتموا براحتنا .. توقّفوا عن الانشغال برفاهيتكم الخاصة والبحث عن الفوز بمكان في جنّة الخُلد واحرصوا على تأمين راحتنا وأن تجعلوا من تونس جنّة.. بابتعادكم عن هدفكم الرئيسي الذي انتُخبتم لأجله وتسند لكم المنح، لن تحصدوا إلا "الذنوب" .. أنا شخصيا لن أسامحكم على أي دينار أدفعه للضرائب وأنتم تستغلونه لغير ما انتخبتم لأجله.
(ترجمة عن النص الأصلي بالفرنسية)
تعليقك
Commentaires