ما يحدث لقطاعي التعليم والصحة تقويض لأسس الدولة الوطنية والمشروع البورقيبي
مدّة القراءة : 2 دقيقة
تعددت الكوارث والمصائب التي مست قطاعي التربية والصحة في الفترة الأخيرة وتكاثرت الملفات الخطيرة التي أظهرت النكبة التي حلت بهذين القطاعين وأظهرت عمق الأزمة التي لا يعيشها هذان القطاعان فحسب وإنما كل المجتمع التونسي.
وليس خافيا أن قطاع التربية والتعليم وكذلك قطاع الصحة العمومية كانا من القطاعات التي تحظى بالأولوية المطلقة في سياسات وبرامج الدولة الوطنية التونسية منذ استقلال البلاد عام 1956.
وقد تجندت كل الكفاءات وحشدت كل التمويلات وسنت القوانين والتشريعات الضرورية لوضع أسس تعليم عمومي إجباري شعبي ومجاني. وأسفرت هذه الارادة السياسية المرتكزة على مساندة شعبية حقيقية عن نجاحات لا يرقى اليها الشك حيث انخفضت نسبة الأمية بشكل كبير وارتفعت نسبة التمدرس وتأكد ضمان حق كل طفل يصل الى سن السادسة في الالتحاق بمدرسة عمومية عملت الدولة على أن تكون قريبة من مناطق سكنى المواطنين حتى في أعماق الريف. وقد نجحت المؤسسة التعليمية العمومية بمستوياتها الابتدائية والثانوية والجامعية أيما نجاح في تأدية دورها كمصعد اجتماعي ومكنت أجيالا من التونسيين من وسائل الحصول على مراكز داخل الادارة والدولة بقطع النظر عن جهاتهم ومراكزهم الاجتماعية الأصلية.وقد كانت المدرسة العمومية رافدا أساسيا لبروز طبقة وسطى داخل المجتمع التونسي كانت حتى سنوات قليلة ماضية تمثل المحرك الأساسي للدورة الاقتصادية وللحركية الثقافية والاجتماعية وكانت عامل استقرار في البلاد.
وكذلك الشأن بالنسبة لقطاع الصحة اذ سعت الدولة الوطنية الحديثة الي وضع سياسة واضحة تركزت على مقاومة الأمراض الوبائية والقيام بحملات التلقيح الواسعة النطاق التي شملت كل المناطق. ووضعت خطوطا للصحة الأساسية عبر شبكة واسعة من المستوصفات. كما وضعت برامج شاملة لصحة الأم والطفل وإستراتيجية فاعلة للصحة الانجابية. وقد مكنت كل هذه البرامج من خفض نسب الوفيات من كل الأعمار لا سيما لدى الأطفال ومن الترفيع في مؤمل الحياة لدى الولادة الى مستويات محترمة تضاهي مستوياتها في العديد من الدول التي تفوق بلادنا في الامكانيات المادية.
إلا ان كل هذه المكاسب التي تعد من مكاسب الدولة الوطنية وجوهر المشروع البورقيبي باتت تشهد تراجعات في الفترة الأخيرة تنذر بتلاشي هذه القطاعات المركزية وكذلك بتقويض كنه المشروع الحداثي الوطني. وقد بدأ هذا الانحدار الرهيب خلال العشرية الأخيرة من حكم النظام السابق الذي عمل على تغيير جذري لمنظومة القيم داخل المجتمع بشكل جعل مكانة المعرفة والتعليم الجهد في تقييم مكانة الناس ودورهم في المجتمع تتراجع لفائدة منظومة قيمية أخرى تعتمد على مظاهر الثراء والنجاح الاجتماعي السريع. وأدت هذه المنظومة القيمية الجديدة الى بروز "ثقافة جديدة" تهمل الأخلاقيات وتؤمن بالنتائج فازدهرت بذلك أنماط هجينة من الزبونية والتملق والفساد بجميع صيغه.
ولم تنجح حكومات ما بعد الثورة للأسف في كبح هذه الانزلاقات الخطيرة بل استغلت المنظومة القديمة لفائدتها فاتسعت رقعة الفساد بشكل غير مسبوق واستقوت لوبيات المال والسياسة على الدولة واختلطت المصالح الضيقة بالمصلحة العامة. وقد زاد في تردي هذه الاوضاع الضغط الرهيب الذي وضعت الدوائر الحاكمة الجديدة فيه الادارة التي وجدت نفسها مكبلة بما سمح للوبيات الجديدة بالتحرك بحرية مطلقة دون رقابة أو خوف من المحاسبة.
لذلك فقد كان رئيس الجمهورية محقا في طرحه لملفات وفيات الولدان أو أطفال مدرسة الرقاب للنقاش خلال الاجتماع الأخير لمجلس الأمن القومي بالرغم من اعتراض بعض الأحزاب على ذلك. فوفيات الولدان تمس من الأمن القومي لأنها تمس من صحة المواطنين وتنخر أسس الدولة الوطنية الحديثة. أما ملف أطفال مدرسة الرقاب فهم مثال على تهاوي المدرسة العمومية ومحاولة جادة لتقويض النظام التربوي الجمهوري لفائدة نظام خارج عن الدولة لا يحترم قوانينها ولا يعترف بها وبمؤسساتها.
والأمل معقود في مجلس الأمن القومي حتى يقوم بما عجز غيره عن القيام به فيغوص في عمق هذه الملفات لفهم أغوارها وتتبع خيوطها وهتك مراميها وتعرية الذين يقفون وراءها.
تعليقك
Commentaires