لا يمكن إجراء الحوار الوطني بمشاركة قيس سعيّد
منذ 11 يوما تم تجريد طفل من ثيابه من قبل بعض الأمنيين، خلال اشتباكات بين الشرطة وعدد من المحتجين بمنطقة سيدي حسين .. بعد اتهامه بأنه "كان في حالة سُكر وتعمّد التجرّد من أدباشه في الطريق العام في حركة استفزازية لأعوان الأمن"، تراجعت وزارة الداخلية عن هذه الرواية وذلك أمام النفي القاطع من الضحية .. بعد 11 يوما لا شيء يُذكر عن هذه القضية .. فالأمنيون المعتدون لم يدخلوا السجن ولا أحد يعرف أسماءهم ولا التتبعات العدلية في حقهم .. دولة تدّعي أنها تحترم القانون عليها الإبلاغ بمثل هذه المعلومات حتى يحافظ الناس على ثقتهم في الأمن أو على الأقل يسترجعوها من جديد .. من واجب دولة القانون والمؤسسات حماية الضحية وليس الوقوف إلى جانب الجلاد، لمجرّد أنه يمثّل السلطة.
تم إطلاق سراح نبيل القروي بعد أن أخذت العدالة مجراها .. هكذا تكون دولة القانون .. صاحب قناة نسمة ورئيس حزب قلب تونس كان مسجونا رغم أن الآجال القانونية للإيقاف تم تجاوزها .. فلا قاضي التحقيق ولا دائرة الإتهام قبلا بإطلاق سراحه، بما أن كلا منهما اختار تأويل القانون على طريقته .. كان لابد من أن تتدخّل مجكمة التعقيب وتحسم الأمر لفائدته من خلال التطبيق الحرفي للقانون.
فور الإعلان عن قرار الإفراج، تعالت بعض الأصوات لتقول إن القرار اتخذه القاضي المثيل للجدل الطيب راشد الذي تلاحقه الشبهات هو أيضا .. يبدو حسب مزاعمهم أن بعض النصوص القانونية تجيز الإبقاء على نبيل القروي في السجن .. هكذا ؟ فلنفنرض أن خصوم وأعداء نبيل القروي محقون في زعمهم هذا، هناك مبدأ في القانون تطبقه الدول التي تحترم القانون وتحترم ذاتها ومواطنيها وهو أن تفسير النصوص يتم بصفة آلية لفائدة المتهم. مبدأ آخر تحترمه بشدة هذه الدول وهو أن السجن يجب أن يكون الاستثناء في حين أن الحرية هي القاعدة.
قد نذهب إلى حد اعتبار نبيل القروي مافيوزي أو حتى مجرم .. من حق البعض أن يكرهوه ويحقدوا عليه .. قد نتعارض معه ونسعى إلى قتله سياسيا، لكن هذا لا ينفي عنه صفة المواطنة كغيره من المواطنين ومن حقه الاستفادة من مبادئ القانون ومبادئ دولة القانون .. نبيل القروي ليس فوق القوانين، لكن لا ينبغي أن يكون تحتها أيضا .. هكذا تكون دولة القانون.
عماد الطرابلسي هو رجل مافيوزي ومذنب بمنطق القانون .. صدر في حقه حكم بالسجن لعدة سنوات .. يعرفه الجميع في تونس بما أنه ابن أخت ليلى بن علي حرم الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي .. في زمن النظام السابق أساء عماد الطرابلسي للكثير من الناس باستغلال صلة القرابة التي تربطه بالقصر .. لم يكن في حاشية الحكم بل كان أحيانا هو الحاكم بأمره .. ما اقترفه عماد الطرابلسي يستحق لأجله السجن خاصة وأن الأدلة والقرائن عديدة وهي ضده.
من الطبيعي معاقبة أفراد ورموز النظام السابق الذين خرقوا القانون، لكن في دولة القانون لا يعقل أن يتم الاحتفاظ بمتهم لمدة 11 عاما في حين أنه لم يرتكب جريمة قتل ولا اغتصاب .. في هذه الدولة ذاتها التي تحترم القانون أقمنا العدالة الإنتقالية التي استدعت منذ أكثر من أربع سنوات عماد الطرابلسي ليدلى بشهادته أمام عدسات الكاميرا ويطلب العفو .. أعتقد أن هذه المدة كافية .. فنحن لسنا دولة انتقامية .. نحن نسعى إلى أن نكون دولة القانون لذلك علينا أن نحكّم لغة العقل.
توفّي والد عماد الطرابلسي الأسبوع الماضي (رحمه الله) .. في دولة تحترم القانون فإن إدارة السجن مطالبة بمرافقة الإبن لحضور الجنازة، إلا أنها رفضت ذلك رغم وجود إذن قضائي، بتعلة "اعتبارات أمنية وصحية" .. في دولة القانون لا يمكن القبول بمثل هذا التبرير .. مجرد وقوع مثل هذه الحادثة، يجعلنا غير قادرين على أن ندّعي بأن تونس هي دولة ديمقراطية تحترم القانون .. بن علي نفسه كان يسمح لخصومه السياسيين بحضور مراسم دفن أهاليهم وذويهم .. باستثناء بعض الأصوات المتفرقة هنا وهناك، لم نسمع عن موجة حقوقية للاحتجاج على هذه الفضيحة. من يزعمون أنهم نشاط حقوقيون، يتحرّكون بشروط وبمقاييس يعرفونها جيدا .. حين تكون الضحية إسمها عماد الطرابلسي، يتظاهرون بأنهم لم يروا شيئا .. مهما كانت درجة كرههم لعماد الطرابلسي، لا يجب أن يكون تحت القانون .. بل بالعكس لأنه مكروه يجب أن تدافع عن حقوقه منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان .. لكن ليس لدينا منظمات حقوقية بالفعل .. لنا بعض الدكاكين تأتمر بأوامر مموليها .. وليس بهذا الشكل سنشيّد دولة القانون والمؤسسات.
كارثة تسبب فيها الكوفيذ 19 في عديد الجهات التونسية خاصة في القيروان وباجة حيث يتم تسجيل العشرات من الموتى يوميا .. المستشفيات مكتظة بالمصابين والأطباء منهكون لأقصى حد.
كانت هذه الفاجعة فرصة للكثيرين لكي ينتقدوا الحكومة ووصف الدولة بالدولة المجرمة .. قد نقبل هذا من مجرد رواد عاديين لمواقع التواصل الإجتماعي لكن يصبح الأمر مقرفا وغير بريء حين يتعلق بقيادات حزبية.
في تعاملها مع هذا الوباء، غابت النجاعة عن الدولة التي لم توفّر التلاقيح في الوقت المناسب ولم تستبق الحاجيات من الأوكسيجين .. سياستها الإتصالية بخصوص المرض وضرورة التلقيح كانت فاشلة .. هذا مؤكّد لكن ليس موجبا لوصف الدولة بكونها إجرامية، فقط لأن الأمور تجاوزته خلال الأسبوع الماضي.
لكن الأكيد أيضا أن الطرف الذي يجب توجيه اللوم له قبل الدولة هم أولئك المواطنين الذين رفضوا ارتداء القناع ورفضوا احترام التباعد الجسدي ورفضوا احترام توقيت حظر الجولان .. كل هؤلاء المواطنين الذين سيقولون لك إن الكوفيد أكذوبة ويؤكدون لك أنه لا مفر من مشيئة الله ويقسمون أن الله رحيم بعباده المؤمنين. إلى كل مصاب بالفيروس، إذا كنت ترفض احترام إجراءات الوقاية وتعتقد أن الله سيحميك، على الأقل لا تعطّل عمل الدولة.
مهما كانت تصرفات بعض المواطنين مدانة، فهم ليسوا في طليعة من نضعهم في قفص الاتهام .. نعم هم متعنّتون وينقصهم الوعي اللازم وهذا قدرنا .. لكن من يستحقون اللوم والتوبيخ وبإمكاننا اعتبارهم مجرمين هم أولئك الأطباء الذين دعوا مرضاهم بعدم الإقبال على التلقيح .. هؤلاء الأطباء من أصحاب الأنا المتضخمة يخالون أنفسهم أذكى من منظمة الصحة العالمية ومن المخابر والدول .. يفترض شطبهم من عمادة الأطباء.
هناك فئة أخرى تستحق اللوم والتوبيخ وهي الأحزاب السياسية التي كثّفت من اجتماعاتها ولقاءاتها الشعبية .. سواء كانت الأحزاب الحاكمة مثل النهضة وائتلاف الكرامة أو أحزاب المعارضة على غرار الحزب الدستوري الحر .. على السياسيين أن يعطوا المثال للمواطنين، بالإقبال على التلقيح أمام عدسات الكاميرا وارتداء القناع في كل ظهور إعلامي وبتوعية أنصارهم بالمخاطر القائمة وبأهمية الإجراءات الصحية الواجب احترامها .. لا شيء من هذا حدث بالفعل .. لقد كانت الأحزاب حاضرة بالغياب ..
رئيس البرلمان راشد الغنوشي تلقّى التلقيح أمام الكاميرا، لكن تصرفه هذا محاه ظهوره بين الناس في الوقت الذي كان يفترض أن يحترم الحجر الذاتي، باعتباره عاد وقتها حديثا من السفر أو كذلك حضوره في جنازة وفي اجتماعات عامة.
أما رئيس الجمهورية فهو لم يتلقّ بعد جرعته الأولى من التلقيح .. لكن له عذره لأنه يعيش في كوكب آخر ..
وبما أننا نتحدث عن قيس سعيّد الذي تعهّد بأن يفعل ما يقول ويقول ما يفعل، ها نحن نشارف على مرور سنتين من عهدته الرئاسية وما زال الرجل لم يفعل شيئا يذكر حتى يتحدّث عنه .. حصيلته الحالية صفر إنجازات أما عن أقواله فالرجل يقول الشيء ويأتي نقيضه ..
لقد وعد في عديد المناسبات بأن يحترم الدستور .. إلا أنه اقترح خلال الأسبوع المنقضي تنقيح نصوص هذا الدستور وتغيير النظام السياسي.
كما وعد في العديد من المرات بأنه لن يجلس إلى طاولة واحدة مع من تتعلّق بهم شبهات فساد وكل من تسبب في هذا الانهيار الذي تشهده البلاد .. غير أنه استدعى يوم الثلاثاء الماضي ثلاثة رؤساء حكومات سابقين من بينهم شخص تتعلق به شبهة فساد وآخران مسؤولان عمّا آلت إليه البلاد.
لقد تعهّد بأن يضع اليد في اليد مع المنظمات الوطنية (اتحاد الشغب ومنظمة الأعراف بالخصوص) لكن هاهو يشكّك في الدور الذي اضطلع به الرباعي الراعي للحوار في 2013 (اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين ورابطة حقوق الإنسان) والذي أتاح لتونس الإحراز على جائزة نوبل للسلام.
لقد قبل بتنظيم حوار وطني، بالتنسيق مع الإتحاد العام التونسي للشغل، حول الوضع الإقتصادي والسياسي للبلاد .. لكنه بصدد تغيير موضوع الحوار حتى يقتصر على مسالة تغيير النظام السياسي البرلماني الذي لا يروق له بما أنه يحدّ من صلاحياته.
لقد التزم باحترام حرية التعبير .. لكنه يزج بأحد المدوّنين (سليم الجبالي) في السجن، بعد أن وجهت له النيابة العسكرية دعوة للمثول أمامها .. إثر ذلك يتهم بالتشويه والتزوير من نقلوا عنه تحقيره لدور المنظمات الوطنية (رغم أن الإجتماع كان مصوّرا عبر الفيديو).
لقد أقسم في السابق بأن لا يمارس السياسة بشكلها التقليدي المتعارف عليه لكنه بالسعي إلى تغيير النظام السياسي وتغيير موضوع الحوار الوطني وقول الشيء وإتيان نقيضه وإقصاء خصومه السياسيين، يؤكد أنه بصدد ممارسة السياسة .. صحيح أنها سياسة مشوّهة لكنها تبقى في نهاية الأمر سياسة.
تونس تمر بأزمة حادة حقيقية .. ودولة القانون ولّت وانقضت كما أن الدولة في حالة انهيار مفزعة.
للخروج من هذه الأزمة الراهنة هناك مخرج واحد هو الحوار .. المبدأ الذي يقوم عليه أي حوار هو أن يجتمع الخصوم والأعداء حول طاول واحدة.
السنوات العشر الأخيرة أثبتت أنه لا مجال لإجراء حوار في البلاد دون مشاركة الإتحاد العام التونسي للشغل .. أي أنه لا يوجد سياسي واحد عاقل يستعدي المنظمة الشغيلة .. فلماذا يسعى قيس سعيّد إلى ضرب اتحاد الشغل ؟ والأدهي والأمر بطريقة مجانية !
لإنقاذ ما تبقّى، على الإتحاد العام التونسي للشغل أن يدير وحده الحوار بإقصاء قيس سعيّد .. مثلما فعل منصف المرزوقي في عهدته إذ فرّق بين التونسيين عوض أن يجمع بينهم .. فهو يستهدف البعض ويتغاضى عن البعض الآخر .. يشوّه البعض ويبيّض البعض .. بالنسبة إليه أصدقاؤه أنقياء وخصومه فاسدون .. من غير الممكن إرساء حوار بنّاء بشخصية مماثلة .. هذا مستحيل !
على الإتحاد أن يكون حازما لفرض الحوار الوطني من خلال دعوة كل الأطراف الفاعلة وإقصاء رئيس الجمهورية مثلما حصل في 2013.
أي أن على المنظمة الشغيلة أن تضع حول طاولة واحدة، الدستوري الحر، حزب عبير موسي وفي المقابل النهضة حركة راشد الغنوشي وائتلاف الكرامة بقيادة سيف الدين مخلوف. يجب أن يجري الحوار بمشاركة قلب تونس وحركة الشعب وتحيا تونس والتيار الديمقراطي .. قد يقول البعض إن هذا مستحيل .. إذا كان ذلك مستحيلا بالفعل فلا يمكن الحديث عن حوار حقيقي .. أي لقاء سينتظم دون حضور كل هذه الأطراف، دون إقصاء أي منها، لن يكون حوارا بالفعل .. قد نطلق عليه وصفا آخر لكنه لن يكون حوارا حقيقيا .. بما أن الحوار الفعلي لا يكون إلا مع الخصوم والأعداء.
في غياب حوار حقيقي، ستواصل البلاد أفولها وانهيارها ولن تنهض من جديد إلا بعد قيام ثورة جديدة ستعصف بكل الأطراف الفاعلة على الساحة السياسية حاليا دون استثناء .. وستكون عشر سنوات أخرى من الجمر.
تعليقك
Commentaires