alexametrics
آراء

هذا ما لم يستوعبه الأمريكان

مدّة القراءة : 7 دقيقة
هذا ما لم يستوعبه الأمريكان

 

منذ 22 يوما اتخذ الرئيس قراراته بإعفاء رئيس الحكومة من مهامه وتجميد مهام البرلمان ورفع الحصانة عن النواب .. أي أننا على بعد 9 أيام من المهلة التي حددها هو بنفسه لكننا مازلنا إلى غاية اليوم دون رئيس للحكومة ولا خارطة طريق ولا أي رؤية واضحة للمستقبل .. ليست لدينا أية فكرة عن وجهتنا القادمة ولا عن كيفية الوصول إليها .. المحتالون والفاسدون مازالوا طلقاء أحرار في حين يتم منع الناس من السفر بشكل ارتجالي وفوضوي.

 

ماذا يفعل الرئيس منذ 25 جويلية ؟ هل هو بصدد ممارسة السياسة الفرجوية مثلما كان الشأن بالنسبة إلى زين العابدين بن علي في سنوات حكمه الأولى .. يوم الجمعة الماضي تحوّل رئيس الجمهورية إلى الحي الشعبي الفقير جدا "حي هلال" حيث التقى بعض الحرفيات في مجال صناعة الطين بمناسبة العيد الوطني للمرأة .. كان ظهوره خاليا من كل تلقائية وهذا أمر يلاحظه أي مختص في الإتصال .. وهو ما تأكدنا منه بعد الزيارة إثر طُلب من النساء الحرفيات عدم الانقطاع عن عملهن خلال الزيارة الرئاسية وعدم الوقوف أو إطلاق الزغاريد وخاصة عدم التوجه له بأية مطالب .. تابعناه كذلك يوم 11 أوت بطبربة والجديدة حين ذهب ليتفقد مركزي تبريد منتجات فلاحية والتي وصفها بمسالك التجويع.

 

أكثر من ذلك حين استقبل سعيّد، رئيس منظمة الأعراف، سمير ماجول وعرض عليه مشروع العفو الذي يستهدف 460 من رجال الأعمال الفاسدين الذين تتعلق بهم قضايا بنهب الأموال تبلغ قيمتها حسب قوله 13500 مليار (دون التوضيح إن كان يتحدث بالدنانير أو بالمليمات). اقترح الرئيس استثمار هذه المبالغ في الجهات المحرومة مقابل صك الغفران .. أي شخص له معرفة بالحد الأدنى من الشأن السياسي يعلم جيدا أن قيس سعيّد لن يتسنّى له العثور على تلك المبالغ بما أنه لا توجد إلى في تفكيره.   

 

لكن بقطع النظر عن رأي النخبة المثقفة، فإن السياسة الفرجوية التي يتبعها الرئيس تحظى بإعجاب الشعب أو على الأقل غالبية الشعب .. أكيد أن دونالد ترامب وفيكتور أوربان لن يكذّباني .. يكفي الإشارة في الخطب إلى الفقر والخوف والمشاعر لكسب ود الناس وتعاطفهم .. كل السياسيين الشعبويين (رجالا ونساء) يعلمون ذلك .. قيس سعيّد يستفيد إلى جانب هذا من عاملين إثنين هما صدقه (أقرب إلى السذاجة) وشعور التونسيين يوم 26 جويلية بأنهم أفضل مما كانوا عليه يوم 25 جويلية .. معظمنا تنفس الصعداء بعد الإعلان عن القرارات الرئاسية، حتى وإن اعتبرها البعض "انقلابا" وإن خرقت نص الدستور وروحه. الأرقام الصادرة عن مؤسسات سبر الآراء تؤكد لنا هذا الإنطباع إذ أن 87 بالمائة من التونسيين يؤيدون قرارات الرئيس، حسب استطلاع أنجزته إيمرود كونسيلتينغ بطلب من بيزنيس نيوز وقناة التاسعة,

 

بقي الآن مسألة طمأنة المجتمع الدولي بخصوص بقية المشوار .. تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيس الحكومة، شيء جميل، لكن يجب أن يخبرنا عما سيفعله بعد ذلك .. من سيعيّن في قصر الحكومة بالقصبة ؟ ما هو مصير البرلمان والنواب ال217 ؟ هل تكون هناك انتخابات سابقة لأوانها حتى نتمكن من التخلّص من كل هؤلاء النواب الفاسدين المحتالين ؟

 

كان بإمكان رئيس الجمهورية أن يجيب على كل هذه التساؤلات ليلة الإعلان عن القرارات أي يوم 25 جويلية .. لكنه لم يفعل ذلك حتى بعد مرور 22 يوما .. رغم أنه من حقنا أن نعرف الرد لأن حالة الشك وعدم اليقين هذه لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية له .. أكد لنا مرارا وتكرارا أن التدابير لن تدوم أكثر من 30 يوما، لكن نعلم أن هذا غير صحيح وأنه سيمدد لا محالة في هذه المهلة لمدة شهرين على الأقل .. سنقف على حقيقة الأمر في ظرف أسبوعين من الآن ..

 

في انتظار ذلك يتساءل المجتمع الدولي وهو في حالة قلق .. ومن أجل الحصول على أجوبة أرسلت الولايات المتحدة وفدا رسميا يوم الجمعة الماضي ليتحادث مع رئيس الجمهورية.

 

صدر بلاغ عن البيت الأبيض إثر هذا اللقاء جاء فيه أن الأمريكان يدعون إلى "عودة سريعة لمسار الديمقراطية البرلمانية التونسية"  كما جاء فيه أن مساعد مستشار الأمن القومي، جوناثان فاينر تحادث مع الرئيس قيس سعيّد حول ضرورة الملحة لتعيين رئيس للحكومة يتولى تشكيل فريق قادر على مواجهة الأزمات الإقتصادية والصحية الراهنة التي تعاني منها تونس .. ولكن أيضا وجوب توفير عوامل الاستقرار الاقتصادي لهذه الحكومة حتى تكون منطلقا وقاعدة للحوار بشأن الإصلاحات الدستورية والإنتخابية المقترحة، استجابة لمطالب شريحة واسعة من التونسيين الذين يطالبون بتحسين مستوى عيشهم وبلوغ حوكمة صادقة، ناجعة وشفافة. 

 

كيف نفك رموز هذه الرسالة ؟ أولا من حيث الشكل .. في اللغة الدبلوماسية حين نوجه رسالة شفوية فهذا يعني أننا ندعم الجهة المتلقية للرسالة .. حين تكون الرسالة مكتوبة فهذا يعني أن هناك دعما مطلقا وتضامنا بين شعبين شقيقين أو صديقين تربطهما علاقات متينة وتاريخية.

 

من حيث المضمون، فإن الولايات المتحدة لا تعترض على ما أعلنه الرئيس التونسي وهي لا تدين الإطاحة بأصدقائها الإسلاميين، بل أكثر من ذلك هي تسانده في هذا لكنها تطلب بعض الإيضاحات والتفسيرات بشأن المرحلة المقبلة والتعجيل بالعودة إلى الوضع الطبيعي .. أي أن الأمريكان يطالبون بنفس ما يطالب به التونسيون .. أي أنهم يقفون إلى جانب 87 بالمائة من التونسيين.

 

أصوات عديدة تعالت ضد هذا التدخل الأمريكي .. أين هي هذه الأصوات حين يتسوّل حكامنا ويطلبون المال والمنح والمساعدة من صندوق النقد الدولي ومن الدول الشقيقة والصديقة .. الحقيقة هي أن تونس مرتبطة بباقي الكون وفي المقام الأول بشركائها التاريخيين وهم فرنسا والولايات المتحدة وأوروبا .. وقد خضنا سابقا في مثل هذا الموضوع.

 

رغم كل ما سبق، هناك أمر يرفض الأمريكان (وخاصة المنظمات غير الحكومية والإعلام) إدراكه والإقرار به.

 

بالنسبة إليهم فإن الديمقراطية هي أن يحكم الحزب الفائز في الإنتخابات .. أما الخاسرون فإما ينضمون للمعارضة أو يشكلون ائتلافا أو تحالفا مع الحزب الفائز في صورة إذا كان هذا الأخير عاجزا عن تكوين أغلبية برلمانية.

 

هذه الرؤية الثنائية للسياسة يمكن تطبيقها بقدر معين من النجاح في الديمقراطيات العريقة حيث تكون المؤسسات مترسّخة وحيث تسود هذه الثقافة .. لكن ليست كل البلدان متساوية .. هناك دول عظمى ترفض هذه الرؤية الثنائية للديمقراطية وهي تمتلك نموذجها الخاص وثقافتها الخاصة بها .. هناك الصين وروسيا على سبيل المثال. من وجهة نظر هذه الدول فإن النموذج الغربي للديمقراطية لا يمكن تطبيقه لديهم، الأمر محسوم. بالنسبة إلى الغرب فإنه يعتبر تلك الدول دكتاتورية، نقطة إلى السطر. لكن يبدو أن الحقيقة موجودة بين الموقفين. 

 

تونس ما قبل الثورة كان لها نموذجها الخاص الشبيه بالديمقراطية لكنه ليس كذلك .. وقد أثبت هذا النموذج محدوديته في 14 جانفي 2011. إنطلاقا من ذلك اخترنا الديمقراطية على الطريقة الغربية، مما جلب لنا تقدير وإعجاب الدول الغربية .. لكن حتى هذا النموذج أظهر بعض النقائص لأن منذ 2011 الإسلاميون هم من يحكم بطريقة أو بأخرى.

 

رغم أنهم يتصدّرون الإنتخابات إلا أن الإسلاميين مرفوضون من غالبية المجتمع .. في الإنتخابات التشريعية لسنة 2019 أحرز الإسلاميون والإسلاميون المتشددون على 25.57 بالمائة من الأصوات .. أي أن 74.43 من الناخبين لم يصوّتوا للإسلاميين .. وإذا ما أخذنا في الاعتبار وجود نسبة امتناع عن التصويت في حدود 58.3 بالمائة فهذا يعطينا فكرة واضحة عن رفض التونسيين للإسلام السياسي .. مقارنة بالجسم الإنتخابي أي الأشخاص المؤهلون للتصويت فإن 10.34 بالمائة فقط من الناخبين صوتوا للإسلاميين ومع ذلك فإنهم هم الذين يحكمون منذ 2011 وهم من اخترق مفاصل الإدارة التونسية ومن أرسل الإرهابيين إلى داعش ومن يفسدون الأعمال والقضاء.

 

ما يرفض الأمريكان استيعابه هو أن الإسلاميين يفوزون في الإنتخابات ليس بفضل صناديق الإقتراع ولكن بسبب تشرذم أطياف المعارضة وبفضل الغش والمال الفاسد والتحيّل على الشعب البسيط الذي أوهموه بأنه حين يصوّت لهم فهو يصوّت لله.

 

نعم إن النموذج الغربي للديمقراطية يمكن أن ينجح في تونس بعد جيل أو جيلين من اليوم، شرط أن تحترم كل الأطراف قواعد اللعبة  الديمقراطية.

 

لكن الحقيقة هي أن الإسلاميين لم يحترموا أبدا قواعد اللعبة ودائما ما يلجؤون للغش وذلك منذ انتخابات 2011 وخير دليل على ذلك تقارير الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات ولدائرة المحاسبات.

 

نعم إن النموذج الغربي للديمقراطية يمكن أن ينجح لكن بشرط أن لا يخرق الحزب الفائز القوانين تحت قبة البرلمان ولا يتهجّم على المعارضين .. في البرلمان التونسي قبل أن يقع تجميد أعماله، تعرض نواب المعارضة إلى الإعتداءات اللفظية والجسدية طيلة أشهر.

 

نعم النموذج الغربي للديمقراطية يمكن أن ينجح لكن شريطة احترام المساواة والأقليات والإعلام .. لأن الإسلاميين يعطلون أي مشروع يتعلق بالمساواة في الميراث (في حين أن المساواة منصوصو عليها في الدستور) .. المثليون يُزج بهم في السجن وحتى ترتيب تونس في احترام حرية الصحافة تراجع في 2021 بسبب إعتداءات ائتلاف الكرامة (الإسلامي) ضد الصحفيين.

 

نعم يمكن للنموذج الغربي للديمقراطية أن ينجح في صورة احترام قوانين البلاد وإرساء قضاء عادل ومستقل .. كل الواقع هو أن هذا ليس حال القضاء عندنا فهو في قبضة الإسلاميين .. حتى أن لدينا وكيلا للجمهورية متهم بالتستر على ما لا يقل عن 6 آلاف ملف في قضايا إرهابية.

 

نعم يمكن أن ينجح النموذج الغربي للديمقراطية، شرط أن يتمتع نوابنا بقدر أدنى من النزاهة والكرامة .. لكن من بين هؤلاء النواب هناك محتالون ومهربون ومتحرشون جنسيا وأئمة ساهموا في تسفير تونسيين إلى داعش.

 

نعم يمكن للنموذج الغربي للديمقراطية أن ينجح لكن شريطة أن تدار شؤون البلاد والعباد وفقا لقوانين البشر وليس السماء .. فالإسلاميون يسعون بكل السبل الملتوية إلى فرض الشريعة وذهبوا إلى حد اقتراح رجال دين لعضوية المحكمة الدستورية.

 

إذا كان قيس سعيّد اتخذ قراراته يوم 25 جويلية 2021 وسانده فيها  التونسيون بكثافة، فلأن الإسلاميين خرقوا كل مبادئ الديمقراطية كما يمارسها الغرب.

 

حتى تنجح الديمقراطية لا يكفي احترام الدستور وإجراء انتخابات حرة وشفافة لكن يجب كذلك احترام القوانين واحترام القضاء واحترام الأقليات واحترام الإعلام.

 

تونس التي حكمها الإسلاميون من 2011 وإلى غاية 2021 لم تحترم شيئا من كل هذا .. وعلى الأمريكان والغرب أن يستوعبوا ذلك.

 

هل خرق قيس سعيّد الدستور ؟ نعم ! لكنه كان مثل ذلك السائق الذي لم يقف في الضوء الأحمر حتى يتمكّن من نقل مريض للإستعجالي لتلقي العلاج.

 

نعم لقد صفّق التونسيون للإنقلاب لكنهم كانوا مُحبطين كذلك الشخص القابع في هاوية وألقي له بحبل للنجاة .. الأولوية بالنسبة إليه هو الخروج من تلك الحفرة العميقة وسينظر بعد ذلك إذا ما كان منقذه قاطع طريق أم لا وإذا كان الحبل مسروقا أو لا.

 

لإدراك وفهم ما حصل يوم 25 جويلية لا بد من وضع الأمور في سياقها وعدم البقاء في البرج العاجي (مثلما فعلت ذلك عديد الأنظمة الغربية) والإكتفاء بإدانة خرق الدستور من قبل الرئيس.

 

ومع ذلك لاسبيل للإبتعاد أو التخلي عن النموذج الديمقراطي الغربي .. على قيس سعيّد أن يقدّم لنا خارطة الطريق للمرحلة المقبلة .. وهو ما تأخّر في القيام به إلى حد الآن بسبب إنشغاله ببعض التصرفات الشعبوية التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter

تقرؤون أيضا

03 جانفي 2022 16:04
0
30 ديسمبر 2021 16:29
0
27 ديسمبر 2021 17:00
0