alexametrics
آراء

ماذا يدور في ذهن الغنوشي؟

مدّة القراءة : 4 دقيقة
ماذا يدور في ذهن الغنوشي؟

سؤال ما فتئت القيه كلّما طلع علينا بدر النهضة ببدعة، ولكن يبدو أنّ هذه البدعة قديمة ، ويعود تاريخها إلى 2011 ، عندما استطاب له كرسيّ الحكم، وآلت إليه الرياسة ذليلة، و عندما اعتقد للحظة أنّه الآمر القاهر بتونس، وأنّه على تحطيم أسس الدولة البورقيبية لقادر. أكتفي بالتذكير ببعض " طلعاته" آنذاك: بدأ بالمطالبة بالرجوع في أحكام التبنّي، وأثار زوبعة  الخروج عن حكم الله في هذا القانون، ليقترح تعويضه بالكفالة.. ثمّ سكت برهة ليرمي بيننا "قطّوس" المساجد و تأسيس صندوق زكاة تحت راية بعث " الأحباس " من جديد. واعتبر أنّ حذف هذه المؤسسة من بورقيبة كان له انعكاس سلبي على اقتصاد البلاد..

وكعادته أيضا ، سلك شيخ النهضة سياسة " الكرّ والفرّ" في هذه المسألة عندما وُوجِه بمعارضة شرسة من المجتمع المدني.. لكن، وحذار فمن طبيعة هذا الرجل الثبات على الرأي، والصبر على النار، خاصّة أنّه صار أمل الإخوان المسلمين في البلوغ ببرنامجهم الاجتماعي والسياسي إلى منتهاه، ويكون بذلك الحافظ للأمانة والأمين في تبليغها..

فكان له أن سلك سبيل المكر " السياسي" والتلوّن مع الحداثة.. ولم يجد حرجا في أن يلبس لبوس الحداثة لينزع هندام الإخوان ويلبس البدلة ذات الألوان الزاهية.. ولم يتحرّج من تطويع لسانه على مصطلحات الحداثة وتسريب مبادئ حقوق الإنسان التي لا يؤمن بأيّ بند منها.. وفي الأثناء.. ورغم تحذيرنا قام نوّاب ونائبات للتهليل بميلاد " حزب جديد" من رحم التنظيم، حزب مدنيّ ومتسامح، بل أذكر أنّ بعضهنّ لم تضيّع فرصة حتى تنهال على مقاربة شيخ النهضة مدحا وإطراء لتستنتج بأنّهم تغيّروا وأنّه من الظلم والصلف الاسترسال في الاعتقاد بأنّهم حزب ديني..

واليوم، نزع هذا الشيخ قناع الحداثة ، وذلك عندما اشتمّ أنّ رياحا ستعصف بمنظومة 2014، وخاصّة عندما أدرك أنّ رعيته بدأت تنفضّ من حوله، لأنّها لم تعد تثق فيما يصدر عنه من تصريحات، ولأنّها أدركت أنّه لا يختلف كثيرا عن مخالفيهم وعن غيره من الحكّام الذين اتهموا بالمحاباة وتقريب العائلة والأصهار في إدارة التنظيم.. أي وباختصار فهموا أنّ شيخهم لا يختلف عن البشر، وأنّه يحبّ الجاه ويشدّ على السلطة بأسنانه، حتى وإن كلّفه ذلك التنازل درجة ليترشّح للتشريعية فيصير نائبا بعد أن كان زعيما لكتلة نيابية اعتبرت الأكبر.. فكان لزاما عليه أن يرمي جانبا بتلك الأقنعة، وأن يستردّ شعاراته الأولى ، شعارات سلبها منه غيره من السلفيين وصقور تنظيمه.. وأدرك أنّ تقمّص دور الصقر هو من أوكد الواجبات الان، عسى أن يناجي وجدان رعيته فيبعث فيهم الحنين إلى حلم ضائع. وهنا أخرج الغنوشي تلك الأوراق التي علاها الندى: فأحيي في وجدان المتباكين على الخلافة نشيد صندوق الزكاة ليكون حديثه مدخلا إلى الإيحاء بأنّه لم ينس شيئا، وأنّ السكوت عن حلم الإخوان ليس سوى مناورة سياسية حفاظا على بقائهم في الحكم حتى لا يغمرهم الطين.

في هذا السياق أتساءل: هل نحن في حاجة حقّا إلى مؤسسات الزكاة ؟ ثمّ ما هى المهام التى تقوم بها مؤسسات الزكاة ؟ لمن تكون تبعية مؤسسات الزكاة ؟ للدولة أم للجان شعبية ؟ وهل نجحت تجربة الدول العربية مع هذه المؤسسة فكانت بمثابة الحلّ السحري لمشاكلها الاقتصادية؟

لنتفق أوّلا: أنّ الزكاة هي من البنيات الأساسية للنظام المالى الإسلامى المعمول به في الدول الإسلامي التى تعتمد الشريعة مصدرا أوّلا في تشريعاتها. وعلى هذا الأساس يكون الغنوشي قد ثأر لنفسه أوّلا عندما منعناه من إدراج الشريعة في الدستور، وثأر لنفسه ثانيا ليهدم مؤسسات الدولة الحديثة وطبيعة الجمهورية الأولى التي أسّسها بورقيبة. كيف ذلك؟

إنّ صندوق الزكاة، أو كما تسميّه بعض الدول العربية بيت الزكاة ، هو مؤسسة " مشكلة" عند هذه الدول: فقد أدرك الملاحظون أنّه إسهام في إضفاء شرعية دينية على مظهر من مظاهر الفساد المالي، وذلك في الإقرار بأنّه مؤسسة مستقلّة، تجمع المال وتوزّعه خارج سلطة رقابية من الدولة، وسلكت بعض الدول سبيل قيامها محلّيا تحت رقابة شعبية، أي لجان شعبية، ولا يفوتنا في هذا السياق التنبيه إلى روح التناغم بين رؤية الغنوشي وبرنامج سعيد في قيامه على الحكم اللجان الشعبية. ورغم اشتراط صفات ثابتة في المشرفين على هذا المجال أدركت كثير من الدول الانزلاقات التي وقعت فيها هذه المؤسسة: من محاباة و صرف الأموال على غير ذي وجه. ولكم في النموذج الأردني خير مثال: فقد "تبين ان قيمة بيان المقبوضات والمدفوعات وميزانية المراجعة قد كشفت ان مجموع النسبة المقتطعة من لجان الزكاة قد بلغت مليونا و232 الفا و488 دينارا بينما القيمة من واقع ميزان المراجعة قد بلغت مليونا و212 الفا و488 دينارا ".

وبعث صندوق الزكاة بالجزائر سنة 2003 باعتباره مؤسسة دينية اجتماعية تحت إشراف وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، والتي تضمن له التغطية القانونية بناء على القانون المنظم لمؤسسة المسجد. ومع ذلك ظلّ مؤسسة على الورق ، لا غير، لانعدام الثقة بين المجتمع ومن يقوم على تسيير الصندوق.

هذا جانب من المشكل، أمّا الجانب الأخطر فهو يتعلّق بمجالات أنشطة هذا الصندوق: إنّه يفتح شرعية التواصل مع المجتمع وتونس العميقة على مصراعيه، ولا رقيب ولا حسيب، ويزداد الوضع خطورة إذا استحضرنا تاريخ نشأة هذه الفكرة بتونس.

قال الغنوشي في مداخلته الأخيرة إنّ فكرة صندوق الزكاة ليست حزبيّة خاصّة بحركة النهضة، بل هي مبادرة شعبية تزكّيها النهضة.. وكعادته يناور، إن لم أقل عبارة أخرى، فأوّل مبادرة تقدّمت بها النهضة منذ 2011 كانت مبادرة صندوق الزكاة، بل وجعلت لها غطاء جمعياتيا تابعا لها. غطاء تحصّل على تأشيرة قانونية واسمها " الجمعيّة التونسيّة لعلوم الزكاة "، تنشط الآن، بل وبتزكية من حكومة الشاهد وترى فيها المنقذ من الضلال. ومنذ سنة 2011  رفعت شعار المرجعية العلميًّة في فقه الزّكاة وادعت اختصاصها في احتساب الزّكاة للمؤسّسات والأفراد وتنظيم الدّورات التحسيسيّة للحثّ على أدائها.. أتساءل أمام هذا التعريف لهذه الجمعية: متى كان للزكاة علوم؟ أليس في فرضها على أوائل المسلمين دليل على أنّها مسألة مشكلة بين الصحابة؟ ولعلّ في مانعيّ الزكاة خير مثال على المواجهة بين أبي بكر وبقية الصحابة الذين رفضوها؟ المسألة عويصة ومعقّدة، وقد نعود إليها في مقالات قادمة.

المهمّ هو أنّ الزّكاة ضرب من ضروب الاقتصاد يماثل غيره من الواردات التي تعتمد عليها بلاد الإسلام في تنمية بيت المال. وهي ركن من أركان الاقتصاد التي انبنت عليها هيئة الاجتماع الإسلاميّ، غير أنّ اقترانه بالخراج والجزية يفرز رؤية فقهيّة متنامية بحسب أحوال بلاد الإسلام، وبحسب تقلّبها من القوّة إلى الضّعف. وهي متداخلة مع غيرها من الأحكام التي تقوم على رؤية للاجتماع الإسلامي مخصوصة، و تؤسّس لبناء نواة دينيّة ذات خصوصيّة اجتماعيّة، وتسعى إلى أن تتعايش مع بقيّة المهاد العقديّة لكن على أساس الغلبة والقهر، وتلك هي في نظرنا مقوّمات الاجتماع الإسلاميّ في المقاربة الفقهية: على المسلم أن يعلن الطاعة للراعي بدفع الزكاة، وعلى الذمّي إعلان شواهد الولاء بدفع الجزية مقابل بقائه في المدينة الإسلامية. وجميع هذه المشاغل تندرج في مشمولات هذا الصندوق.

نعترف أنّ هذه المؤسسات اضمحلّت مع قيام الدولة الحديثة، وفي بناء مجتمع أساسه المواطنة ، و في إحداث مؤسسات أوكلت لها مهمّة تنظيم المجتمع، ولكن إقحام مؤسسات من الدولة الدينية سيشوّه بنية الدولة الحديثة ؛ لأنّ مشمولات الزكاة أو الأحباس تندرج ضمن مهامّ وزارات مخصوصة مثل وزارة الشؤون الاجتماعية والصحة ووزارة التعليم....

كفانا إذن شعبوية وتلفيقا.. كفانا تشويها لبنية الجمهورية التي بعثت منذ الخمسينات وكان لها دور إيجابيّ في رسم صورة للمجتمع التونسي تتميّز عن كثير من المجتمعات..

دعوتك سيدي تندرج في الهلاّلو الشعبوي الاحتفالي، وما ذاك سوى محاولة استقطاب في الوقت الضائع. وعلى كلّ لتقتنع يا سي الغنوشي أنّ لكلّ بداية نهاية.. وأنّ للتاريخ حركة لا تستطيع إيقافها أو كبح جماحها، وما انتفاضتك هذه الأيام سوى رقصة ديك.

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter

تقرؤون أيضا

03 جانفي 2022 16:04
0
30 ديسمبر 2021 16:29
0
27 ديسمبر 2021 17:00
0