مرحبا بالفاسدين طالما يخدمون مصالحنا
كل الأضواء تسلّط مجددا على ما يحدث في قصر قرطاج .. رغم صلاحياته المحدودة فإن قيس سعيّد نجح في أن يكون الشخصية الأبرز في الدولة، تلك التي ينتظر الجميع قراراتها. هذه المرة بقي الكل ينتظرون ما سيقرره الرئيس بخصوص تنظيم موكب أداء اليمين بالنسبة إلى الوزراء الجدد الذين نالوا ثقة البرلمان يوم الثلاثاء الماضي.
دستوريا، لا يمكن للوزراء مباشرة عملهم إلا بعد إجراء هذا الموكب، غير أن سعيّد يرفض إلى حد الآن هذا الأمر.
لمن لا يعرف الأسباب، فإن رئيس الجمهورية أقسم على أن يحترم الدستور وقوانين البلاد .. وحسب ما توفرت لديه من معلومات فإن أربعة من بين الوزراء الجدد وعددهم أحد عشر، تتعلّق بهم شبهات فساد ويواجهون شبهة تضارب مصالح .. وهو سبب كاف في نظره لعدم تسميتهم رسميا.
رئيس الحكومة وكل النواب الذين صوّتوا لفائدة هؤلاء الوزراء (أكثر من 140 نائبا معظمهم من الإسلاميين وأتباعهم) لهم وجهة نظر مختلفة عما يراه الرئيس .. فبالنسبة إليهم القضاء وحده كفيل بإدانة هؤلاء الأشخاص أو تبرئتهم، سواء تعلق الأمر بشبهات الفساد أو تضارب المصالح.
أمام تعنّت رئيس الجمهورية، ارتأى راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة أن يدلي بدلوه حول المسألة، قائلا: "إن تونس نظامها برلماني لذلك فإن دور الرئيس رمزي كما أن تركيبة الحكومة من مشمولات الحزب الحاكم ورئيس الحكومة".
منذ أشهر قليلة تم اتهام رئيس الحكومة السابق، إلياس الفخفاخ، بشبهة تضارب المصالح .. الأشخاص ذاتهم الذين ينتقدون رئيس الدولة اليوم بعد أن صادقوا على حكومة المشيشي، كانوا بالأمس في الصفوف الأمامية لإجبار الفخفاخ على الإستقالة .. جماعة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة كانوا اتفقوا على تقديم لائحة سحب ثقة ضده، لمجرد وجود شبهة تضارب مصالح .. فما الذي يفسّر هذا التغيّر الكبير في مواقف هذه الأحزاب وعلى رأسهم الغنوشي والذين يسمحون اليوم للمشيشي ما منعوه بالأمس عن الفخفاخ ؟
إلياس الفخفاخ ينتمي إلى الترويكا التي طاردت طيلة فترة حكمها (2011-2014) رموز النظام السابق .. مكونات تلك الترويكا كانت تنعت بالفساد رموز النظام السابق .. لكن لماذا ينعت قياديو الترويكا ومعهم قياديو قلب تونس والكرامة، بعض رموز النظام السابق (على غرار عبير موسي) بالفساد، في حين يقبلون في صفوفهم شخصيات تحوم حولهم العديد من الشبهات (أمثال محمد الغرياني)؟ هذا يسمّى نفاقا .
عليهم الإختيار .. إما أن تكون من دعاة تحقيق العدالة، وفي هذه الحال لا يمكن اتهام أي كان بالفساد ما لم يصدر في شأنه حكم قضائي بات .. أو أن تسعى إلى أخلقة المشهد السياسي وإقصاء كل شخصية تحوم حولها شبهات بالفساد.
قيس سعيّد ينتمي إلى هذه الفئة الثانية .. هو يرغب في أخلقة الحياة السياسية وهو محق في ذلك إذ لا يعقل تعيين وزير تحوم حوله شبهة فساد .. يفترض أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكن لا يحق لهذا المشتبه به أن يكلّف بحقيبة وزارية قبل ثبوت براءته. في الدول الديمقراطية، لا مكان لذوي الشبهة، في الحياة العامة .. مجرد مقال صحفي كفيل باستقالة وزير أو حتى رئيس للدولة .. كثير من الوزراء قدموا استقالاتهم بسبب مقالات صحفية نشرتها الصحيفة الفرنسية الساخرة le Canard enchaîné أو الموقع الإخباري الإلكتروني Mediapart .. لو أن الولايات المتحدة لم تحرص على أخلقة مشهدها السياسي لما أجبر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون على الإستقالة بسبب فضيحة ووتر غايت.
لكن حذاري فهذا لا يعني أنه بإمكاننا توجيه التهم بالفساد لكل من تتعلق به شبهة فساد .. فقرينة البراءة من أبرز مقومات المحاكمة العادلة .. كل شخص بريء ما لم يثبت اقترافه للذنب .. غير أن هذا الشخص ذاته لا يحق له تولي منصب وزاري أو معقد في البرلمان .. هذا ضروري لأخلقة الحياة العامة .. يجب أن يكون الوزارء (الساسة عموما) مثالا يحتذى في الاستقامة ولا يمكن أن يكونوا محل شبهات.
هذا ما يريد تحقيقه قيس سعيّد .. إذ برفضه تنظيم موكب أداء اليمين، يكون الرئيس وفيا لمبادئه وقناعاته .. فقد تم انتخابه لنزاهته وهو حريص على الحفاظ على السمعة التي يحظى بها.
رئيس الحكومة والنواب الذين صوّتوا لحكومة المشيشي الثانية، لا يريدون في المقابل مشهدا سياسيا نظيفا وفوق كل الشبهات .. فهم يعملون حسب أهوائهم ومن يتعاملون معه .. فإذا تعلّق الأمر بعبير موسي، يتحوّلون إلى أبطال في محاربة الفساد، والحال أن هذه الأخيرة ليست لها قضايا في المحاكم .. وحين يتعلّق الأمر بمحمد الغرياني أو نبيل القروي، يصبحون أبطالا في الدفاع عن مبدإ قرينة البراءة.
هذا النفاق لا يُحتمل .. فقط عليكم اختيار مبدإ في الحياة تتبعونه.
السؤال الذي يطرح اليوم لا يتعلّق بمعرفة إذا ما كان على رئيس الجمهورية أن ينظم موكب أداء اليمين أو لا .. السؤال الحقيقي اليوم ما الذي نريده بالفعل لديمقراطيتنا الناشئة: مشهد سياسي نظيف أو فاسد ؟
الرئيس قيس سعيّد حسم أمره واختار الشق الذي يرضي قناعاته .. فهو شخص نزيه ويطمح إلى مشهد سياسي نظيف، مثلما تعهّد بذلك خلال حملته الإنتخابية.
هشام المشيشي وراشد الغنوشي وعشرات النواب اختاروا هم أيضا الشق الذي يرضي قناعاتهم .. فالنزاهة تقاس في نظرهم على حسب ما يبديه الآخرون من ولاء لهم .. بالنسبة إليهم النزاهة ليست مسألة أخلاقية بل مسألة مصالح.
تعليقك
Commentaires