قراءة في اضراب لم يكن منه مفر
بقلم: سفيان بن حميدة
الاضراب العام في قطاع الوظيفة العمومية الذي تم اقراره ليوم 17 جانفي الجاري كان منتظرا وكانت كل المؤشرات تشير الى حتمية تنفيذه. وهو حدث يمثل نقطة فارقة في الحياة السياسية والاجتماعية سوف تتجاوز تبعاته لا محالة مجرد الصور التسويقية التي يركز عليها البعض من الذين يرون في تنفيذ اضراب بهذا الحجم صورة و تجسيدا للديمقراطية التونسية الناشئة دون محاولة التعمق لسبر اغوار الأزمة التي أدت الى تنفيذه.
وقبل الخوض قي جزئيات المفاوضات بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة ونقاط الالتقاء التي لم تتطور لحد الاتفاق ونقاط الاختلاف التي ادت الى فشل هذه المفاوضات والى تنفيذ الإضراب يجدر التساؤل عن مبررات تطور العلاقة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة أو بالأحرى أسباب تدهور هذه العلاقة بشكل ملفت خلال العام المنقضي الى درجة ان كل الاخبار االواردة من داخل قاعات المفاوضات تؤكد ان العقبة الكبرى في المفاوضات كانت أزمة الثقة المستفحلة بين الطرفين. ويزيد التساؤل الحاحا عندما نستذكر ان الاتحاد العام التونسي للشغل كان من أبرز المساهمين في وثيقة قرطاج التي انبثقت عنها حكومة يوسف الشاهد بل ان الاتحاد العام التونسي للشغل كاد يكون حتي أشهر قليلة ماضية السند الوحيد لهذه الحكومة.
ولعل السياسات المالية العامة لحكومة يوسف الشاهد والتي هي في الحقيقة تواصل لسياسات الحكومات السابقة التي تعطي الأولوية المطلقة للتوازنات المالية العامة ولالتزامات الحكومة تجاه الدوائر المالية الدولية على حساب أوضاع المواطنين المعيشية وتدهور قدرتهم الشرائية، هي التي زادت من التنافر بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل وتدرجت به حد القطيعة. وتبرر الدوائر الحكومية ضرورة تقيدها بما اتفقت عليه مع الهيئات المالية الدولية بأنها كانت مجبرة على الالتجاء الى هذه الهيئات في ظل الأوضاع الاقتصادية الكارثية للبلاد. وفي الواقع فإنها ليست المرة الأولى التي تجبر فيها تونس على الالتجاء الى صندوق النقد الدولي. إلا ان المفاوضين الحكوميين التونسيين نجحوا حينها في تخفيف شروط الصندوق وجعل انعكاسات برنامج الاصلاح الهيكلى الذي نفذ في الثمانينات من القرن الماضي أقل وطأة ممكنة على الفئات الاجتماعية المتوسطة والضعيفة.
وقد تمترس كل من الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة طيلة المفاوضات وراء البيانات والأرقام المتعلقة بقيمة الزيادة في الوظيفة العمومية وانعكاساتها الاجمالية وطريقة احتسابها وهي بيانات و أرقام، ككل البيانات والأرقام، تخضع بالضرورة الي التحاليل والقراءات المختلفة والمتناقضة أحيانا. بل أن العديد من الأرقام التي اعتمدت عليها هذه المفاوضات كانت أصلا غير دقيقة. وقد عجز الطرف الحكومي على تقديم رقم واحد ثابت لعدد العاملين في الوظيفة العمومية وكان عددهم ينقص ويزيد حسب مجريات التفاوض.
الا أن هذا التمترس وراء الأرقام كان يخفي التناقض الحقيقي والعميق الذي كان يباعد بين المفاوضين. فالطرف الحكومي كان يتماهى مع وجهة نظر صندوق النقد الدولى الذي يسوق لسياسات ليبرالية متوحشة لا تقيم وزنا للاعتبارات الاجتماعية. أما الطرف النقابي فكان بالضرورة حاملا لرؤية اقتصادية اجتماعية تقوم على اولوية البعد البشري وعلى قاعدة الدور التعديلي للدولة ومسؤوليتها تجاه مواطنيها لا سيما من الطبقات الوسطى أو الضعيفة.
كما يخفي هذا التمترس تناقضا أكثر عمقا حول طبيعة الحكم وأشكال ممارسته. وإجمالا فان هناك نظرتين للحكم مرتبطتين بمدى الالتزام بقواعد الديمقراطية. ففي الأنظمة الاستبدادية أو التي تكون فيها الديمقراطية هشة، فان السلطة تحكم قبضتها على الدولة والحكومات تحكم شعوبها بما يتوفر لها من وسائل انفاذ القانون التي تتحول بسهولة وبمرور الوقت الى وسائل قمع وأدوات لتأبيد بقائها في الحكم. أما في الدول الديمقراطية أو تلك التي تحمل حلم الديمقراطية فان الحكومات تحكم بتفويض من شعوبها لإدارة شؤون الدولة بما يخدم مصالح هذه الشعوب. ويبدو أن هناك تخوفات جدية داخل الساحة السياسية اجمالا بما في ذلك النقابات من تقوقع الحكومة على نفسها وعدم انصاتها إلا لدائرة ضيقة من مناصريها وانزلاقها نحو محاولة تنفيذ تصوراتها بالقوة وهو انزلاق قد يعود بتونس الى مربع الاستبداد الذي كويت بناره لسنوات طويلة.
تعليقك
Commentaires