alexametrics
آراء

محاسبو الفشل

مدّة القراءة : 4 دقيقة
محاسبو  الفشل

 

في الوقت الذي ينشغل فيه نواب البرلمان في اللهو والتجسس على بعضهم البعض، يجد التونسيون أنفسهم في مواجهة مشاكل الحياة الحقيقية. فالكابوس الذي حذّر منه الجميع قبل ثلاثة أشهر يلوح اليوم في الأفق القريب .. تتواتر الأخبار هنا وهناك عن إفلاس بعض الشركات وتسريح البعض الآخر لعمالها في عديد المجالات ، خاصة في قطاع البناء والأشغال العامة .. في حواره التلفزي مساء أمس الأحد، تحدّث رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ عن مساعدات لفائدة 11 ألف مؤسسة .. وهنا أريد أن أقول له هذا غير صحيح وإن هناك من هو بصدد مغالطته وبالتالي مغالطتنا جميعا.. أكثر من 10 آلاف مطلب تم إيداعها لدى لجنة الإحاطة ودعم المؤسسات المتضررة من تداعيات وباء كورونا "كوفيد 19" لكن لا وجود للمساعدات إذ لم يتم تقديم أي مساعدة تذكر إلا حد الآن رغم أن رئيس الحكومة يؤكد عكس ذلك أمام الكاميروات.. فالبنوك ما زالت تشترط تقديم الضمانات والدولة ما تزال تتلكّأ في خلاص مزوّديها، كما أن الدولة لم تقدم بعدُ الضمانات الضرورية حتى تتكن المؤسسات الصغرى والمتوسطة من الحصول على الضمانات البنكية وبقي منشور البنك المركزي التونسي حبرا على ورق. حين يقول الفخفاخ إن 11 ألف مؤسسة استفادت من المساعدات فهو في الواقع يغالط نفسه .. فهل هو يفعل ذلك متعمّدا أو لا؟ هذا ما نجعله حقا لكل في كلتا الحالتين النتيجة واحدة فمنصبه لا يخوّل له بأن يغالط الناس أو أن يكون ضحية مغالطة الفريق العامل معه.

 

فنحن هنا نتحدث عن الوعود التي قدّمها إلياس الفخفاخ في كلمته يوم 21 مارس الماضي والتي تعهّد فيها بأن يقف إلى جانب المؤسسات حتى لا تقع في الإفلاس أو تضطر لتسريح عمّالها، بسبب تداعيات الحجر الصحي الشامل الذي تم إقراره لمنع تفشي الوباء. في بداية شهر ماي تم الشروع في تجسيد تلك الوعود من خلال إصدار الأمر الحكومي عدد 308 ونشره في الرائد الرسمي. وقد وفرت وزارة المالية المنصة الرقمية لتلقي مطالب المؤسسات المتضررة كما أصدر البنك المركزي منشورا حتى تتمكن البنوك من النفاذ إلى تلك المطالب عبر آلية القرض الاستثنائي لكن لا شيء ملموس يُذكر إلى غاية اليوم أي منتصف شهر جوان 2020

 

السبب في هذه التعطيلات يكمن في تفصيل صغير موجود في الأمر الحكومي 308 .. فقد تم إحداث لجنة متعددة الأطراف للنظر في المطالب المختلفة (حوالي 11 ألفا) وهذه اللجنة هي السبب في كل التعطيلات الحاصلة اليوم.. اعتقدنا في وقت ما أن الإدارة هي سبب التعطيل وقد كنا مخطئين في ذلك لأنه اتضح أنها ليست الطرف الوحيد المعطّل .. لذلك أقدّم اعتذاراتي للموظفين الذي انتقدناهم في السابق فقد تبيّن بالكاشف أنهم ليسوا سبب ارتهان المؤسسات بل سلك آخر يتمثل في الخبراء المحاسبين الذين انضموا إلى الموظفين في عضوية تلك اللجنة. فالموظفون مسؤولون عن جانب من المشكل بسبب منظومة عاجزة عن تنفيذ القرارت السياسية.. أما البنوك فهي مسؤولة عن جانب ثان من المشكل عبر منظومة منسجمة ولكن نقص كامل في وضوح الرؤية في ما يتعلق بالإجراءات المزمع اتخاذها في صورة عدم قدرة المؤسسات الصغرى والمتوسطة على تسديد أقساط القرض بضمان من الدولة.

 

أما الخبراء المحاسبون فقد تسببوا في اختلاق مشكلة لم تكن موجودة أصلا وتصرفوا بعقلية القرون الوسطى لتجأر المواد الغذائية .. فقد طالبوا المؤسسات الصغرى والمتوسطة بالقيام بتدقيق خاص للتأكد من صحة الأرقام المصرح بها من قبل  تلك المؤسسات، وهو إجراء لم ينص عليه المرسوم.. أي أن اللجنة بفضلهم منحت لنفسها مهاما وصلاحيات جديدة لتفرض بعض الشروط على المؤسسات بما من شأن أن يعقّد عملية منح القروض ويعطّل آلية المساعدة وذلك بالاستناد على سؤال واحد: "ما الذي يثبت لنا أن الأرقام المقدّمة صحيحة؟ .. لذلك وباسم الشفافية يجب التدقيق في الحسابات قبل تقديم المساعدة إلى أي كان". كما وضعوا آجالا يستحيل احترامها والعديد من الإجراءات الأخرى .. فعوض أن تهتم بنشاطها الرئيسي وإعادة إنعاشه صارت المؤسسات مضطرة لضبط حساباتها لإثبات حسن نواياها ونزاهتها ووضعها "الكارثي".

 

المفارقة الكبرى هي أن المنظومة الجبائية في تونس ترتكز على ما يصرّح به .. وفجأة وفي الوقت الذي تمر فيه المؤسسات بأزمة حادة تستوجب إجراءات عاجلة، ها أن اللجنة المكلفة بإطفاء الحريق، تقرر أن الأرقام المصرّح بها لا تكفي وأنه لا بد من القيام بعملية تدقيق وبذلك يكون الخبراء المحاسبون قد تسلموا آلاف الدنانير مقابل مهمتهم هذه، في حين أن المؤسسات على حافة الإفلاس وفي أزمة مالية خانقة ..

 

فعوض أن ينقذوا المؤسسات، سيجد الخبراء المحاسبون أنفسهم بصدد إحصاء خسائرنا وهزائمنا. ماذا سيكسبون من وراء تصرفاتهم وممارساتهم البالية هذه؟ الأكيد أنهم سيربحون مداخيل إضافية وسيجنون أصواتا إضافية كذلك في الإنتخابات القادمة فضلا عن إثبات الحاجة إلى وجودهم في مثل هذا النوع من اللجان.

 

السؤال المطروح هنا: أي مشروعية لما قامت به هذه اللجنة؟ الأكيد لا شيء .. هل من حق الخبراء المحاسبين التدقيق في الحسابات وسط فترة نشاط المؤسسة وفي آجال قصيرة جدا؟ بالطبع لا .. لقد منحت اللجنة نفسها كل الحقوق من خلال تأويل ذاتي لمضون الأمر الحكومي عدد 308 الصادر عن الحكومة لأن المرسوم كلفها بالانكباب على النظر في المساعدات لكنها تجاوزت المطلبوب منها وفرضت قرارات مجحفة وظالمة ومكلفة وخارجة عن سياق الزمن.. فقد قامت هذه اللجنة بإضاعة وقت ثمين على المؤسسات مما سينجر عنه موت العديد من المؤسسات قبل حتى محاولة إنقاذها.

 

هذه اللجنة شوّهت كل القرارات السياسية التي اتخذخا إلياس الفخفاخ وأفرغتها من مضمونها وروحها، من خلال التصرّف كما لو تصرفت أي دولة متخلّفة لا تثق في مواطنيها وتغبط نجاحاتهم.

 

منذ سنوات خلت، ألقى أعوان الأمن لمهرجان المدينة القبض على شخص لم يقتطع تذكرة وسلّموه إلى مدير الدورة آنذاك مختار الرصّاع .. فماذا كان ردّ المسؤول؟ اتركوه يدخل فهذا الشاب خاطر من أجل متابعة عرض ثقافي .. فهو يسرق ليثقّف نفسه .. انصرفوا واهتموا بما هو أفضل ولكم وأكثر فائدة.

 

يجب التسلّح بمخزون ثقافي ورؤية متبصرة للعالم لإدراك جدوى مثل هذا التمشّي وفائدته على مجتمع ما .. وهو ما لا تفقهه تلك اللجنة الحريصة على تكديس الوثائق والقيام بعمليات التدقيق والمراقبة.. فعوضا من إنقاذ المؤسسات، سعت اللجنة إلى البحث عن مشكلة لا وجود لها أصلا .. عوضا عن إنقاذ 10 آلاف مؤسسة من بينها 2000 مؤسسة في وضعية تحيّل، اختارت اللجنة إنقاذ 3000 من أبطال الإجراءات البيروقراطية وتجميع الوثائق على حساب 7000 آخرين سيغرقون لا محالة.

 

لهذه الأسباب ما زالت تونس عاجزة عن النجاة فالخطأ لا يعود فقط للحكّام الذي يقبلون بأن تشوّه قراراتهم لعدّة أسباب وتعلات، لكنه أيضا خطأ يعود إلى عقلية تسعى جاهدة إلى تحطيم كل ناجح وتعطيل كل من يحاول النجاح.

 

لجنة الإحاطة ودعم المؤسسات المتضررة من تداعيات وباء كورونا "كوفيد 19" تم إحداثها بموجب القرار عدد 40 بتاريخ 8 ماي 2020 الصادر عن وزير المالية في اطار تطبيق الأمر الحكومي عدد 308 المؤرخ في اليوم ذاته .. ويترأس اللجنة وزير المالية وهي تتركب من  أعضاء يمثلون 7 وزارات والبنك المركزي التونسي والمنظمة الشغيل ومنظمة الأعراف والبنوك. وبإمكان رئيس اللجنة دعوة كل شخص يرى وجوده صالحا لحضور أشغال اللجنة وذلك وفقا لجدول أعمال الاجتماع ومن هذا المنطلق تمت دعوة هيئة لخبراء المحاسبين.

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter

تقرؤون أيضا

03 جانفي 2022 16:04
0
30 ديسمبر 2021 16:29
0
27 ديسمبر 2021 17:00
0