متى يتّعظ وزراء داخليتنا من دروس الهجمات الإرهابية السابقة؟
الخميس 27 جوان 2019 كان خميسا أسود بالنسبة إلى تونس التي شهدت ثلاث عمليات إرهابية منها هجومان في العاصمة إلى جانب توعّك الحالة الصحية لرئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي.
هجوم وسط العاصمة لم يكن الأول من نوعه فهذه المرة الثالثة التي يقدم فيها عنصر ارهابي انتحاري على تفجير نفسه في شارع الحبيب بورقيبة، الشارع الرئيسي بتونس الذي يحتضن مقر وزارة الداخلية أو في إحدى الشوارع الكبرى القريبة منه وبالتحديد شارع محمد الخميس الذي شهد عملية إرهابية ذهب ضحيتها 13 عونا من الأمن الرئاسي يوم 24 نوفمبر 2015. أما هجوم 29 أكتوبر 2018 فخلّف 9 جرحى دون تسجيل أية خسائر بشرية .. آخر هذه العمليات الإرهابية تلك التي حصلت الخميس الماضي وأسفر عن استشهاد عون للشرطة البلدية وعدد من الإصابات في صفوف الأمنيين والمدنيين .. وإذا أضفنا إلى هذه التفجيرات الإنتحارية وسط العاصمة، تلك العمليات الإرهابية بأحد فنادق مدينة سوسة ومتحف باردو، فإن الوقت حان لدق ناقوس الخطر وتحميل وزارة الداخلية والوزراء المتعاقبين عليها المسؤولية في ذلك. فقد نكتفي أمام وسائل الإعلام الأجنبية بالتأكيد على أن تونس ليست البلد الوحيد الذي يتعرض لمثل هذه الهجمات الإرهابية وأن تونس ليست أقل أمنا من باربيس ومدريد ولندن وبروكسيل وهي مدن أوروبية اكتوت بنار الإرهاب في عمليات خلفت عددا أكبر من الضحايا .. يمكن أن نطمئن الغير ونطمئن أنفسنا بأن تونس كغيرها من البلدان معرضة لخطر الإرهاب لكن علينا أن نقف على أخطائنا وننقد أنفسنا لأن وزارة الداخلية التونسية تتحمل هي أيضا جزءا من المسؤولية في تلك العمليات والهجمات الإرهابية.
فبسبب عاداتنا وتقاليدنا وما جُبلنا عليه من تربية قاسية، ما زال توجيه النقد لوزارة الداخلية ليس من شعائرنا ولا من الأمور التي نأتيها بكل أريحية .. بل هي شيء ما كنا نتصوره قبل عشر سنوات من الآن بسبب مختلف الطغاة والجلادين الذين مروا على رأس هذه الوزارة .. لذلك ما زال البعض يحتاط قبل أن ينتقد الأمنيين ووزارتهم .. وهو الشعور ذاته الذي ينتاب الأغلبية حين يتعلق الأمر بانتقاد القضاة وأعوان الضرائب وهذا شيء غير طبيعي ويجب أن يندثر إذا أردنا للبلاد أن تتقدّم فكفى ما سقط من ضحايا وشهداء ...
منذ الثورة صار التونسيون محللين وخبراء في كل الأمور .. بعض قرائنا (وحتى قراء وسائل إعلامية أخرى) صاروا يفقهون في الصحافة أكثر منا .. كثير من المتقاضين يفهمون القانون أكثر من المحامين .. وكم من مريض أضحى يدرك أغوار الطب أكثر من طبيبه المعالج .. نحن شعب يعشق تقديم النصائح والدروس للغير .. نعتقد أننا مركز الكون وأن أصحاب هاته المهن والوظائف لا يقومون بمهامهم كما ينبغي.. فكيف السبيل إلى انتقاد وزارة الداخلية دون السقوط في فخ تقديم الدروس وحتى لا نبدو أكثر خبرة ممن كان أمن البلاد عملهم واختصاصهم؟
بحكم مهنتنا وخططنا الوظيفية قام معظم رؤساء التحرير بزيارة عدد لا يستهان به من البلدان بل إن بعضهم قام بجولة حول العالم أكثر من مرة .. تلك السفرات والجولات أتاحت لنا فرصة التعرف على الأوضاع الأمنية في مختلف مدن وعواصم تلك الدول، سواء داخل المؤسسات والمنشآت الكبرى وفي محيطها أو في المواقع الإستراتيجية والبناءات الحساسة .. لذلك فإنه من الأهمية بمكان مقارنة ما يحدث عندهم بما هو معمول به عندنا وفي ذلك فائدة لوزارة داخليتنا.
وفي هذا الصدد ليس ضروريا أن تكون خبيرا لتلاحظ أن مداخل مطار تونس قرطاج وكبرى المراكز التجارية أشد تأمينا مما هي عليه مداخل المطارات الباريسية (أورلي ورواسي شارل ديغول) .. فهنا يتم الدخول آليا بعد تمرير الحقائب على آلة السكانير، خلافا لما يتم في فرنسا .. لكن الدخول من فوق جدار مطار تونس قرطاج ليس أمرا صعبا خاصة في الجانب الموجود بجهة سكرة يكفي استخدام سلّم للقيام بذلك وهو أمر يستحيل أن يحدث في باريس .. كما أنه لا حاجة لأن تكون خبيرا لكي تتفطن إلى تهاون أعوان أمننا على الحدود، بداية من البوابة الخارجية حيث تجب الأعوان واضعين أيديهم في جيوبهم وغير مرتدين لقباعاتهم، وصولا إلى المكاتب والنوافذ الداخلية حيث نادرا ما تجد الأوان يرتدون الزي الرسمي .. فمن من المسافرين في تونس لم يلاحظ ولو مرة على الأقل أن العون المكلف بمراقبة شاشة السكانير يكون شارد الذهن غير مركّز البتة ومنشغلا بالحديث مع زميل له أو أنه يراقب المحيط الدائر به ليتمكن من تدخين سيجارته بكل سرية داخل المطار؟
وبعيدا عن المطارات يمكنك دون عناء ملاحظة عدم احترام الأميين لقانون الطرقات (بما فيهم شرطة المرور) إذ تجد سيارات الشرطة وحتى سياراتهم الخاصة رابضة في مفترق الطرقات كذلك شرطيو الدراجات النارية فهم نادرا ما يضعون الخوذة حتى لا نقول إنهم لا يعترفون بها أصلا.
لاحظوا كيف أن الأعوان المكلّفين بمراقبة السفارات والإقامات والمقرات السيادية والوزارات والكنائس وبعض مقرات وسائل الإعلام، غالبا ما تجدهم جالسين وقابعين في الظل بصدد التعامل مع هواتفهم الذكية أو بصدد الثرثرة مع شخص ما .. أنا شخصيا خضت في الأمر مع رئيس سابق للحكومة بخصوص هشاشة الرقابة الأمنية التي يخضع لها (فقد تكمنت من الوصول غلى مكتبه بحقيبة في يدي دون أن تُطلب مني وثائق هويتي أو تتم مراقبتي فقط اكتفيت بإلقاء التحية على عون الأمن) عندما نلاحظ قلة الحرفية بادية في الزي والسلوك، فمن حقنا القول إن أمننا متقلب هو أيضا كغيره من الأسلاك والقطاعات.
منذ الخميس الماضي تم التكثيف من الحواجز الأمنية وهو ما يؤدي إلى مزيد من الإختناق في حركة المرور على مستوى المداخل الرئيسية للمدن والأحياء، لكن هذه الحواجز ستختفي خلال الأيام الثليلة القادمة إلى حين هجوم إرهابي آخر .. فما الفائدة إذن من تلك الحواجز؟ .. ستقول لن الداخلية إنها أعلم منا بهذه الأمور غير أننا لا نرى مثل هذه المظاهر في كبرى المدن الأروربية التي شهدت عمليات إرهابية.
التفجير الإنتحاري الذي شهده شارع فرنسا يوم الخميس الماضي مشابه كثيرا لتلك التفجيرات التي حصلت في 2015 و2018 وهي مسألة يجب دراستها بعمق من قبل الخبراء المختصين (إن وُجدوا) .. عنصر إرهابي يقترب من حافلة أو عربة أو سيارة شرطة ثم يفجّر نفسه داخلها أو بالقرب منها .. كل ما سافر إلى أوروبا يقولون لك أن مثل هذا السناريو مستحيل حدوثه في المدن الكبرى الأوروبية والأمريكية .. لماذا ؟ لأنهم لا يجعلون من قواتهم ووحداتهم الأمنية أهدافا ثابتة وغير متحركة بالنسبة إلى الإرهابيين .. نادرا ما تجد سيارة شرطة رابضة فوق الرصيف وسط الحشود من المارة .. وحتى إن حصل وهذا نادر جدا فإن العربة تكون محميّة بحواجز أمنية تجعل الإقتراب منها أمرا صعبا ويكاد يكون مستحيلا.
الأمنيون ضحايا عملية الخميس الماضي اعتادوا العمل في المكان ذاته .. بعضهم لأمور أمنية لكن معظمهم موجود هناك لملاحقة الباعة المتجولين .. علما بأنه على بعد 50 مترا من ذلك الموقع يوجد أكبر قاعدة لتجارة العملة الصعبة في تونس دون أن يقلق أحد راحة أولئك المهرّبين .. لماذا توضع إذن سيارة شرطة في مفترق نهج معروف بحركته التجارية لمنع الباعة المتجولين من كسب بعض المليمات ؟ ألحماية الإقتصاد الوطني ؟ بالكبع لا وخير دليل على ذلك مهربو وتجّار العملة الأجنبية الذين ينشطون بحرية مطلقة بلا رقيب ولا حسيب .. الدليل القاطع على فشل هذه المنظومة أن السيارة التي كان يفترض أن توفر لنا الحماية هي ذاتها لم تكن محمية .. فهذه العربة مثل ما حدث في 2015 و2018 صارت هدفا ثابتا بالنسبة إلى الإرهابيين الذين أهديناهم أرواح شهدائنا على طبق ...
في روما كما في مدريد يتنقل أعوان الشرطة البلدية عبر دراجات نارية لمطاردة الباعة المتجولين فوق الرصيف .. في لندون ودبلن يتنقل أعوان الشرطة في سيارات مصفحة ومجهزة بلوحات رقمية يمكنهم من خلالها إدخال الرقم المنجمي لأية سيارة مشبوهة كانت والتعرف على هوية مالكها وتاريخ صلوحية رخصة السياقة والتأمين والأداءات الخاصة بالجولان والفحص الفني للعربة وفي صورة يوجد أي إشكال تتم ملاحقة صاحبها ويؤمر بالوقوف.
ففي أوروبا وأمريكا الشمالية (وأماكن أخرى في العالم بكل تأكيد) لم نعد نرى رجال شرطة في المفترقات يوقفون السيارات بشكل إعتباطي .. فكثير من النساء اللاتي يقدن السيارات (وخاصة الحسناوات) يعانين كثيرا من تعدد هذا الشكل من الإيقافات والتي لا يخوض فيها الأمنيون إلا في الأمور المتعلقة بوثائق السيارة والهوية بل تشهد كل أصناف المعاكسة والملاطفة وحتى العبارات الخارجة عن النص ...
في الصين مثلا، هذا البلد غير الديمقراطي بالشكل الكافي والذي يحكم قبضته على المعطيات الشخصية، يتم تحديد هوية المواطنين في بيكين بفضل تقنية التعرف على ملامح الوجه بواسطة الكمبيوتر.
الخطأ الذي تقوم به وزارة الداخلية لدينا والوزراء المتعاقبين عليها هي أنهم يحافظون على أساليب قديمة وتقليدية جدا لحفظ الأمن باعتماد الحواجز وهو ما يعرّض أمنيينا لضربات الإرهابيين والحال أنه يكون أقل كلفة من الناحية البشرية والمالية (على المدى المتوسط) إذا قامت وزارة الداخلية بتعصير أساليب عمليها وتدخلاتها بتعويض الحواجز بدوريات من الشرطة المتنقلة على الدراجات النارية (بالنسبة إلى الشركة البلدية والتدخلات العاجلة) والإستثمار في تركيز كاميرات المراقبة .. فعوض تجنيد الأمنيين للتمركز في المفترقات تحت الشمس صيفا والأمطار شتاء بإمكاننا توظيف أولئك الأعوان ذاتهم وتكليفهم بمتابعة كاميرات المراقبة التي يفترض أن يتم تركيزها في كل مكان .. فحاليا لا توجد إلا بعض الكاميرات في المفترقات الكبرى ولا توجد تقريبا في الشوارع والأنهج، خلافا لما هو معمول به في كبرى المدن الأوروبية والأمريكية. هناك يمكنهم متابعة وملاحقة أي مشتبه فيه طوال كيلومترات .. فهذه التجهيزات متوفرة حاليا في بعض المقرات والبناءات لذلك حان الوقت لتعميمها على كامل المدينة.
إذا كانت مسؤولية مختلف وزراء الداخلية ثابتة في الهجمات الإرهابية فذلك بسبب اعتمادهم على خطط تجعل من أمنيينا في موقع ضعف بالنظر إلى الأساليب المبالية المعتمدة.
فبدلا من توقيع إتفاقات لتسلم سيارات وتجهيزات في شكل هبات، على وزير الداخلية الحالي ومن سيخلفه في منصبه هذا أن يوقعوا على إتفاقات من أجل الإستفادة من الخبراء الدوليين في مجال السلامة الأمنية للمدن وتعصير أساليب العمل من أجل إضفاء المزيد من النجاعة مع التقليص من الكلفة.
ملاحظة: تمنياتنا بالشفاء العاجل لرئيس الدولة، الباجي قايد السبسي .. عُد إلينا سريعا وسنكون هنا لنستكمل ما شرعت فيه وما دافعت عنه منذ توليك منصب الرئاسة واحترامك للديمقراطية الناشئة ولدستور البلاد.
تعليقك
Commentaires