من أحرق روما؟ ومن أحرق الفسطاط ؟ ومن سيحرق تونس؟
ما سأذكره من حديث إنّما هو استرسال لحديث آخر خاطبني به يوسف الشاهد ، وإن نطقت باسمه عاريا من الألقاب فلأنّني أعتبره رفيقي في جميع ما نعيشه في بلادنا.. لكن لا أخفيكم يا سادتي أنّني بدأت أخشى على نفسي من التحدّث إليه باعتباره ندّا للشعب.. وعلى هذا الأساس فسألقّبه بالسيد الرئيس حتى يكون بيننا حاجز يحفظ الألقاب والمراتب.
قد أسأل لماذا هذا الحرج؟ وأجيب لأنّ ما سمعته الثلاثاء ليلا ينبئ بالكثير الكثير.. ويتوعّدنا بمعاناة ستنضاف إلى معاناتنا.. ولأنّني أعيش مع ما خلّده لي التاريخ من نماذج تنير سبيل اللاحق حتى يتّعظ بأخطاء السابقين..
الثلاثاء مساء يا سادتي شاهدنا على المباشر ميلاد نجم.. ولكن أيّ نجم؟؟؟ نجم يحمل في كيانه أنا متضخّمة وتبحث عن طريقة حتى تتعالى وتتعالى فتلتهم كلّ ما يعترضها.. أنا تُرغمك على أن تُعجب بها، وعلى الإيمان بأنّها تمتلك صفات تنفرد بها هي وحدها ودون غيرها.. أنا تقودك رغم أنفك إلى الإطراء عليها ومديحها بالكيفية التي تريدها هي، وهذا في نظرها أقلّ واجب نحوها.. وعلى هذا الأساس قام حوار السيد الرئيس: صنّفنا ، نحن هذا الشعب الذي يستيقظ كلّ صباح مرعوبا من التهاب محتمل في أسعار قوته.. أو متوجّسا أيّ نبإ أو حادثة إرهابية.. قلت صنّفنا إلى صنفين: من هم معه ، ومن هم ضده وضدّ المصلحة العامّة..فإذا به يسعى إلى السيطرة علينا ويحتوي أفكارنا ومواقفنا.. وكأنّ لسان حاله يقول: توقّفوا عن التفكير مادمت أنا رئيسكم.. ولا تفكّروا إلاّ ضمن ما أراه صالحا لعقولكم..
شخصية رئيسنا يا سادتي سريعة في اكتمالها، ويمكن أن تلاحظوا تناميها بين ظهور إعلاميّ وآخر.. ولا عجب ان يخرج علينا في المرّة القادمة و" درّة عمر" في يده..
أستطيع اليوم أن أقول إنّ رئيسنا قد أعدّ نفسه ليستوي على عرش الحكم.. وأن يجعل منّا نحن هذا الشعب " رعية" ترى في طاعته طاعةً لله تعالى.. رأيت نرجسيته في قوله : "ما فعلته في عامين في حرب على الفساد لم تفعله حكومة منذ 60 عام" .. عبارة نسفتَ بها مآثر رجال ونساء بنوا تونس.. عبارة اخترقتَ بها زمنا كان قاعدة للشخصية التونسية.. وعبارة تخلّصتَ بها من تحمّل مسؤولية محاربة الفاسدين لترميها في أعناق من بنى هذا الوطن.. لست أدري هل سأقف لأحاسبك نقطة نقطة ؟ لكن الحديث سيطول، وكما قال أجدادنا الذين تنكّرت لهم: "ما مسّط حديث العرب كان معاودته" .. لكن أكتفي بإخبارك، فقد تكون لا تعلم ذلك: لقد هضمت حقّ بورقيبة الذي توفيّ ولا يملك ملّيما في جيبه.. وتجاهلت الهادي نويرة والباهي الأدغم.. هل تعلم أنّ مثل هؤلاء تبرّعوا بأملاكهم لتونس؟ أقول هذا الكلام وأنا أستحضر المنجي سليم الذي تبرّع بمنزله مقرّا للدولة التونسية عندما كان رئيسا للجمعية العامّة للأمم المتحدة، وغير هذه الأمثلة كثير..
هل أجرؤ على سؤالك: وماهي مسألة الجهاز السرّي عند النهضة في نظرك؟ وأنت إلى يومنا هذا تسعى إلى إخفاء رأسك كلّما أثيرت هذه القضية؟ أليست ملفّا من ملفّات الفساد السياسية/ الاقتصادية/ الاجتماعية؟ ألا تعتبر من أهمّ الملفّات المطروحة على طاولتك حتى ننتهي فيها إلى قول نهائي يرضي النفس والعقول؟ أم هي ... مسألة محرجة ولا تخدم مقاربتك السياسية، وخاصّة أنّك على أبواب انتخابات..
هل أسألك عن وضع التعليم في عهدك السعيد، كما صوّرته لنا طبعا، من تلاشي منظومة التعليم.. إلى دخول التعليم العالي في كهف المجهول، ولا أحد يعلم متى سيتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود.. بل إنّ جميع الظنون تسير إلى اعتبار هذه السنة سنة بيضاء، كيف لا وقد أنزلت أقسى قرار ينتفي بعده كلّ حوار، قرار بقطع أرزاق الناس.. فمن نصحك سيدي بهذا الأمر لا يريد بك خيرا، أو قل يتصف بالطيش السياسي.. لأنّ المداولات تبقي دائما أوراقا للنقاش ولا تحرقها مرة واحدة.. أمّا أنت ووزيرك الخلبوص فقد أحرقتما جميع الأوراق.. وستأتينا الأيام بالجديد، لأنّي عاجزة عن التنبؤ..
خذ من التاريخ عبرة، لأنّي أخشى عليك أن تصنّف فيما بعد في قائمة الحاكم بأمر الله، سادس الخلفاء الفاطميين، بويع بالخلافة صغيرا. وكان الحاكم بأمر الله قد أقرّ أيضا مثلك، محاربة الفاسدين. بل أثار جواً من الرعب عندما أوعز لعيونه أنه يعلم ظهر الغيب ويعرف جيداً المفسدين في البلاد، فعزم على جمع الحطب لإحراقهم .. والغريب أنّ سياسته هذه أتت أكلها : فكلما سرت شائعة بأن المقصود بالحرق هم طائفة من تجار أحد الأسواق أو بعض موظفي ديوان من دواوين الدولة هرع إليه هؤلاء إلى قصر الخلافة يقبلون الأرض ويتعهدون بالإقلاع عن المخالفات التي يرتكبونها فيصدر سجل الحاكم بالعفو عنهم.
وبنفس هذه السياسة أيضا قضى الحاكم بأمر الله على احتكار السلع فتوافرت الأقوات حتى في أوقات الجفاف.. واستشهد العامّة من الناس على حكمته عندما قطع اليد اليمنى لمتولي الحسبة أمامهم بالسوق وأعقبها بالثانية في مرة أخرى ، ثم أمر بقطع لسانه لأنه كذب في شأن معلوماته عن الأسعار والمخالفين لها من أهل الأسواق.
أوامر غريبة أصدرها الحاكم بأمر الله، وتحدّثت عنها المصادر وجميعها يرد في إطار سعيه لمكافحة المفاسد وتدارك المخاطر وتحسين حياة الرعية. فقد أمر بمنع خروج النساء من ديارهنّ ، ومنع صنع الأحذية لهنّ وكان الحاكم يعتقد أن ذلك عقاب سماوي على بعض الذنوب، ومنع عليهنّ الحمّام، وتقول بعض الروايات أنّه لمّا كان يتجسّس على الرعية ببعض الشوارع سمع ضحك نسوة داخل حمّام فأمر ببناء حائط على الباب عقابا لهنّ، ودفنّ أحياء. ومنع أكل الملوخية والأسماك التي لا قشر لها فضلاً عن قتل الكلاب ..
في الحقيقة لم تتعاظم الأنا في شخصية الحاكم لو وجد أناسا من المحيطين به واعين وناضجين.. فالسبب المباشر للداء الذي تمكّن منه هم حاشيته، ولذا أنبّهك، صادقة والله، إلى وجوب الحيطة والتروّي في اختيار من يسطّر لك ويدرّبك على تكوين شخصيتك السياسية، لأنّ شعب 2019 ليس شعب 2014 أو 2011 أو حتى الشعب الذي حكمه بن علي.. ولك في الحاكم بأمر الله عبرة: فقد بلغ بالرجل جنون العظمة إلى درجة أن نادى بألوهيته ، وزرع هذه الفكرة فيه وفد من دعاة المذهب الإسماعيلي الذي قدم إلى مصر وعلى رأسهم محمد بن إسماعيل الدرزي وحمزة بن على الفارسي، فراقت للحاكم فكرة التأليه واعتقد تجسد الإله في شخصه، واُعلِنت الدعوة بتأليهه سنة 408 هـ واتخذ بيتاً في جبل المقطم، وفتح سجلا تكتب فيه أسماء المؤمنين به، فاكتتب فيه من أهل القاهرة سبعة عشر ألفا، كلهم يخشون بطشه، وتحول لقبه، في هذه الفترة على الأرجح، من الحاكم بأمر الله إلى الحاكم بأمره، وصار قوم من الجهال إذا رأوه قالوا: (يا واحدنا يا واحدنا، يا محيي ويا مميت)».
عارض أهل السنّة من المصريين فكرة حلول الله في الحاكم وتأليهه ونقموا على الدعاة من أهل الفرس الذين أخذوا يبشرون بدعوتهم فقتلوا محمد بن إسماعيل الدرزي واختفى حمزة الفارسي ثم ظهر مع أتباعه في بلاد الشام ونقم الحاكم على المصريين لقتلهم داعيته فأحرق مدينة الفسطاط».
وأخشى عليك أن تصنّف فيما بعد أيضا في قائمة نيرون: وهو إمبراطور روماني وصل إلى الحكم في سن السابعة عشر. أصيب بما يشبه جنون العظمة. مجموعة كبيرة من الأرستقراطيين والأثرياء وجميع أساتذته. وعاث في البلاد فساداً إلى أن أحرق “روما” بحريق هائل ظل مشتعلاً لمدة تسعة أيام..
هذا ما أخشاه عليك وعلى أنفسنا.. أخشى أن يذكر التاريخ أنّك أنت من أحرقت تونس.. ففز بنفسك قبل فوات الأوان.. وتواضع... فالتواضع من شيم الكبار..
تعليقك
Commentaires