هل أتاكم حديث فقهاء المالكية " اللايت"
هو حديث قديم جديد ذكّرتني به أمور جمّة:
ذكّرني به هؤلاء الذين انتظروا من يرشّحهم علماء علينا، وما أكثرهم بعد الثورة ، فطال انتظارهم ولذلك قرّروا أن يُجلسوا أنفسهم على كرسيّ " العلم" أي في معنى الإفتاء.
ذكّرني به كلّ من هبّ منهم ساخطا ناقما، وقد حمل في إبطه صكّ التوبة ليشير إلى العامّة أن اتبعوني فأنا الكلمة الحقّ.
ذكّرتني به الفتوى التي صدح بها بعض هؤلاء بسوسة ، فتوى حبلى بالوعيد والتهديد ، صدح بها وجه جديد حشر في معركة المواجهة مع الاجتهاد حشرا، هذا الوجه أصبح بقدرة قادر نجما تتناقله الألسن، بعد أن كان ينشط في مجالات لها علاقة بالمال والاستثمار، إنّه " الشيخ الدردور" .
تسلّحت بقدر ليس بالهيّن من الصبر حتى أطّلع على " علم" هذا الوجه الجديد الذي يختفي وراءه " ثلّة من العلماء" وكنت أهيّئ النفس أن أجد كمّا من المعارف تعدّل ما انتهيت إليه من نتائج في مسألة المواريث. فقلت لأبدأ بكتابه تاريخ الفقه الإسلامي، وجلت بين صفحاته علّي اقف على المقاربة التحليلية التي وعد بها عنوان الكتاب فلم أجد سوى تكرار لمنهج التقليديين الجامعين لمادّة موجودة ، هي شبيهة بما كتبه سليمان الأشقر أو محمد علي السايس أو صالح الفرفور..الخ. فمنّيت نفسي أن أجد ضالّتي فيما أنتجه هذا العالم من فتاوى، عسى أن أظفر بالآليات التي يستند إليها في تجديد المنظومة الفقهية.. لكن ، ويا أهل الأسف أدركت أنّ أوّل بادرة في الفتاوى هي هذه التي صدعنا بها، وانتبهت إلى أنّ الرجل من المشرّعين للمالية بتونس، ولعلّه من الفاعلين في إدراج هذه المادّة باعتبارها اختصاصا في التعليم العالي، والتي أحدثها الوزير المنصف بن سالم بكلّية العلوم الاقتصادية بصفاقس. يئست وعزمت على النظر في فحوى هذه الفتوى التي شغلت النفوس والعقول.
استمعت إلى مداخلات " الثلّة"، وكم يحلو لهم أن يحاكوا الأوّلين سواء كانوا من الأمم الغابرة أو الصحابة. وتتبعت مقالاتهم فإذا بهم يخطئون في العبارة وفي النحو، وهذا لا يدفعني باعتباري سامعة إلى الاطمئنان لمقالتهم، لأنّهم يفتقرون إلى الآليات الأساسية في فهم النصّ. فقلت لا بأس فلأنظر في المضمون فإذا به تكرار لما قيل منذ الصيف الماضي ، وإذا بهم مازالوا في سجن صنعوه لأنفسهم، سجن قطعية الدلالة والتمسّك بكلمة الله. وتبيّن لي أنّهم في مقاربتهم مصابون بمرض " التوحّد الفكري"، وهذا مرض جديد ومزمن، فهم عاجزن عن الانصات إليك ويصابون بالاهتزاز العصبي كلّما قام مخالف لرأيهم، هذا الدّاء تمكّن من تفكيرهم وسلوكهم فتحوّلوا إلى شخصيات هستيرية تعطّل معهم الكلام فانقطع الحوار بيننا.
لعلّ الفضاء لا يسمح لي بالتفصيل في فتواهم، ولذا عليَّ أن أختزل موقفي في مسائل محدودة، وأهمّها: أنّ الأستاذ دردور اجتهد في أن يقف عند جملة من المسائل التي تثار كلّما ذكرنا المساواة بين الرجل والمرأة في المواريث، وأكّد خاصّة أنّ نصيب البنتين في ميراث أبيهما يساوي الثلثين بينما ميراث الابن يساوي الثلث، وهذا في رأيه ينقض القول بأن البنت مهضومة في الميراث.. ويواصل تحليله منبّها إلى وجوب الالتزام بكلام الله لا بالاجتهاد فينقد المقاربة الاجتهادية لقانون المواريث المقترح والتي تسوّي بين الجدّ والحفيد/ة .. وفي هذه المسألة نقف على ارتباك مقالة الرجل وليس ارتباكه هو، لأنّه حبيس رؤية تقليدية في مقاربة الأحكام، فهو راو أي مكرّر لما حفظ. و غفل الأستاذ دردور عن أنّ ميراث الجد غير موجود في القرآن، أي أنّ الله لم يسهم له نصيبا، ومع ذلك ظلّ حكما حاضرا في الفرائض، وأنا أعلم أنّ سيجيبني بأنّ عمر هو من سنّه، لأقول له : اضبط موقفك، أنت تستند إلى ما قاله الله أم إلى ما أقرّه عمر نيابة عن الله؟ ثمّ اتق الله في مسألة نصيب البنتين هل إنّ المحاكم الشرعية التي تنادي بها تطبّق فعلا هذه المقاربة؟ وإليك شاهد يحطّم مقاربتك، أخذته دون عناء من موقع اسلام ويب مركز الفتاوى ألم يستندوا إلى التعصيب ؟ وطبقوا الفاصلة " للذكر مثل حظّ الأنثيين". مشكلتهم يا سيداتي وسادتي أنّ لفظ " المساواة" يرعبهم، بل يدخلهم في حمّى من الهوس، لأنّ المنظومة الفقهية والمقاربة الإسلاموية لا تدين سوى بالعدل: أي إنّ عدالة الله هي في أن جعل المرأة أقلّ من الرجل، وعلى المرأة أن تقبل بما قدّر لها. ومراجعة المواريث من هذا المنظور يحطّم هذه المسلّمة التي هي نتاج بشريّ محض. إنّهم يدافعون عن مؤسّسة الذكورة لا غير، حتى وإن كلّفهم مخالفة القرآن.
سؤال هامّ ألقيه لأعود إليه في مقال آخر: اليوم صدحتم بتكفير كلّ من صوّت على القانون، فما هي المرحلة القادمة؟ أليست الاستتابة وإهدار الدم؟ ثمّ هل خطّطتم لكيفية القتل؟ عن طريق ساحات عمومية كما يفعل الأوّلون؟ أم في فضاءات مغلقة؟ وهل ستعلّقون جثثهم كما يفعل الأوّلون أمام المساجد حتى يكونوا عبرة؟
سؤال آخر أيضا: كيف ستستقطبون أنصار الجبهة والنداء والكتلة الحرّة؟ عن طريق مسالك جديدة للدعوة والاستئثار بقناة الإنسان.. التي ينشط فيها حاملو صكّ التوبة وما أشبههم بابن القارح في رسالة الغفران؟
ترون يا سادتي في أيّ مستنقع نحن، نتيجة سياسة التساهل مع هؤلاء، انغمسوا في دواليب الدولة، فإذا بمؤسسة جامعية تابعة للحكومة تعلن خروجها وعصيانها وترتهن أبناءنا لتنشئ أجيالا مختلفين عن أندادهم، بل ناقمين، وإذا بجمعية الأئمّة تعلن، دون خوف، انشقاقها أيضا عن وزارة الشؤون الدينية. وتلك سدرة المنتهى في فصل النهضة الدعوي عن السياسي وهذا ينبئ بأنّ قادم الأيام سيتحفنا بارتهان فضاء المساجد للحملات الانتخابية. وضعنا لم يتغيّر، بل هو إلى الأسوإ يسير. ومن واجبي التنبيه.
لا يفوتني في الأخير أن أتوجّه إلى من اعتبِروا حداثيين واعتبروا أنفسهم حاملي " ملكية قانون المساواة" : " طالبنا بوجوب النزول إلى المجتمع أي إلى تونس العميقة، في بساطتها وصفائها .. طالبنا بوجوب قطع الطريق على الرجعية التي انتشرت بين الناس ،وإرساء خطاب بسيط قريب من الأفهام حتى نحدث توازنا .. وأنا واعية انّها عملية صعبة جدّا.. لأنّ أفضل الطرق لنجاح القانون هو في أن يتبنّاه المجتمع وذلك بتوفير الاليات التي تكفل له أن يحصّن نفسه ممّا ينشره الإخوان من تخويف.. للأسف كلّ يوم أجدكم تبتعدون عن العامّة لترتموا في أحضان جلسات أنيقة ومغلقة مع منظّمات دولية.. وتتباهون في نقل تسجيلات عن إعجاب المجتمع الدولي وانبهاره بتجربتنا.. وفي الأثناء تنسجون حجابا بين الناس ومطلبنا وتزيدون في تعميق الهوّة بيننا . سؤالي: ثمّ ماذا؟ متى ستكون لكم الجرأة في الاحتكاك بالشعب وتشريكه في هواجس الحداثة.. آسفة لقد تركتموه فريسة الرجعية، ثمّ تتعجّبون لماذا هو شعب محنّط ويحمل فكرا داعشيّا.
أنا واثقة أنّ القانون سيمرّ .. وكم أرجو أن تظلّ النهضة على موقفها رافضة قانون المساواة ، حتى تظهر في مكانة الأقلّية .. وإن كنت أشكّ في ذلك.. لكن حذار مرور القانون لا يعني تبنّي الناس له.. فإلى متى ستظلّون ترجئون مرحلة مصيرية لبقاء هذا القانون الذي كان همّا حملناه في صدورنا طيلة ربع قرن.
زمن التفقه ولّى ولا يمكن بأي حال بعث الأموات من قبورها، و الحفر في قبور الماضي لا ينتج سوى أطلال لا تشبه حاضرنا.
تعليقك
Commentaires