قيس سعيد يمارس في سياسة النعامة بصمته الغريب !
من النادر أن يبقى رئيس الجمهورية قيس سعيد لفترة طويلة دون أن يُلقي خطابا كعادته في لقاءاته برئيسة حكومته أو بأحد ضيوفه في قصر قرطاج، ليعطي رأيه في ما يحدث في البلاد ويجيب كالمعتاد خصومه السياسيين.
كان آخر خطابٍ مخضرم وحاد من الرئيس سعيد يعود إلى تاريخ 1 جوان 2022، حين أشرف على اجتماع مجلس الوزراء، ثمّ أصدر أمرا رئاسيا تمّ بمقتضاه إعفاء 57 قاضٍ من مهماهم / ن.
منذ ذلك الخطاب الذي دام قرابة عشرين دقيقة، لم يلقي قيس سعيد أيّ خطاب إلى حدّ الآن والتزم بالصمت أمام ما تشهده البلاد من تجاذبات خاصّة ما يُقال عن أداء لجنة إعداد الدستور الخاصّ بالجمهورية الجديدة وإضراب اتحاد الشغل الذي خاضه أمس الخميس.
بالإضافة إلى إضراب القضاة لمدّة أسبوعين ، ومشاورات الحكومة مع صندوق النقد الدولي ، ولم يتفاعل حتى مع الإحتفاظ بصحفي . هذه المجالات كان من المتوقع أن يتفاعل معها الرئيس قيس سعيد ولكنه فضل المراقبة من بعيد في صمت دون عادته، ولم يُهاجم خصومه السياسيين بعد.
هذا الغياب لمدّة 17 يوما ، تمّ استدراكه في مناسبتين ، الأولى يوم 3 جوان الجاري، خلال زيارته لعدد من المنشآت الرياضية ودعوته لإعادة ترميم الملاعب التونسية و من بينها الملعب الأولمبي بالمنزه و المسبح البلدي بالمنطقة واستنكر في نقاشه مع وزير الرياضة طريقة إهمال هذه المنشآت التاريخية. والمناسبة الثانية، حين قام رفقة زوجته بتقديم واجب العزاء لوزير الداخلية توفيق شرف الدين في وفاة زوجته بعد تعرّضها لحادث منزلي. واستغلّت رئاسة الجمهورية هذه الزيارة ونشرت صورا لم تحترم فيها حرمة العائلة وبالتحديد حين تمّ نشر صورة لأبناء الفقيدة دون أن يتمّ إخفاء وجهيهما رفقة زوجة قيس سعيد وهم في حالة ضعف وانكسار.
عادة المواضيع التي تُثير الرأي العام تكون ذات أهمية قصوى وتستحق توضيحا من رئاسة الجمهورية بالتحديد موضوع إقالة القضاة والاتهامات الأخيرة التي وجهها القضاة الذين تمّ عزلهم بشأن تدخل السلطة التنفيذية في الجهاز القضائي . وتدخلها تستحق توضيحاً رئاسيًا.
في الخطاب المُقتضب الذي وجّهه للقضاة يوم 1 جوان الجاري والذي تم على خلفيته عزل 57 قاضٍ، أعلن قيس سعيد أنه لا شك في أن هؤلاء القضاة مذنبون بارتكاب عدّة جرائم مختلفة، وكشف أنّ البعض منهم متورّط في الإثراء غير المشروع ، الفساد والتستر على إرهابيين، تغيير مسار قضايا فساد مالي، خرق واحب النزاهة والحياد، تعطيل سير العدالة في 6268 ملف إرهابي، تجاوز الصلاحيات و تعطيل أبحاث أمنية في قضايا أمن عام والعديد من التُهم الأخرى. رداً على ذلك ، شهد القضاة أن الأمر ليس كذلك وكشف بعض القضاة المعزولين أنّ أسماءهم وردت في قائمة المعزولين نظرا إلى رفضهم الإنصياع إلى أوامر السلطة التنفيذية وكشف البعض الآخر أنّ زوجة قيس سعيد وشقيقتها المحامية عاتكة شبيل يقفن وراء إعفاء بعض القضاة.
هذا الإعفاء المُسقط للقضاة دون أيّ توضيح معلّل من قيس سعيد، دفع الأسلاك القضائية بكاملها، المالية والإدارية والعدلية، لخوض إضراب لمدة أسبوعين تقريبًا ومن المرجح أن يتم تجديده لمدة أسبوع ثالث ، أمام عدم تراجع قيس سعيد عن قراره أو منحه الحقّ للقضاة المعزولين في الدفاع عن أنفسهم بالطعن أمام العدالة بعد أن أعلن في أمره الرئاسي أنّ قرار العزل غير قابل للطعن.
انسداد آخر في البلاد ، الإضراب العام الذي نظمه الاتحاد العام التونسي للشغل يوم أمس الخميس 16 جوان الجاري، حيث لم ينجح الإتحاد في إيجاد أرضية مشتركة مع الحكومة التي ترفض أي حوار جاد لتنفيذ الالتزامات التي قطعتها الحكومات التي سبقتها.
كان بإمكان قيس سعيد ، وهذا هو دوره الرئيسي، أن يجد حلا يُرضي الطرف الحكومي واتحاد الشغل ، ويقوم بمنع الإضراب ، خاصّة انّ المنظمة الشغيلة أعربت عن استعدادها لإلغاء الإضراب في صورة إيجاد أرضية توافق، لكنّ قيس سعيد فضل سياسة الصمت.
وفي هذا السياق، كان الصحفي صالح عطية قد صرّح لقناة الجزيرة أنّ الجيش أخبر الاتحاد العام التونسي للشغل عن رفضه الامتثال لطلب الرئيس قيس سعيد والمتمثل في غلق مقرات الاتحاد. في حين أنّ اتحاد الشغل كذّب هذا التصريح، وتحرّكت النيابة في لمح البصر وقررت النيابة العسكرية يوم السبت 11 جوان الجاري، فتح تحقيق ضد الصحفي صالح عطية و توجيه تهمة "الاعتداء المقصود منه حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي و نسبة أمور غير قانونية لموظف عمومي دون الإدلاء بما يثبت صحة ذلك والمس من كرامة الجيش الوطني وسمعته و الاساءة للغير عبر الشبكات العمومية للاتصالات" ، وتمّ إيقافه.
وأمام هذه التُهم التي تهم أمن الدولة ومدى احترام المؤسسة العسكرية لأوامر رئيس الجمهورية، خيّم الصمت على قصر قرطاج وفضل قيس سعيد لعب دور طائر النعامة التي تغمس رأسها في الرمل لتفادي ما يحدث حولها.
نفس الصمت انتهجه قيس سعيد في ما يتعلق بالالتزامات التي قطعتها حكومة نجلاء بودن مع صندوق النقد الدولي. وكان سعيّد غالبا ما انتقد الهيئات الدولية ، أحيانًا بكلمات قاسية (لجنة البندقية) ، وأحيانًا بكلمات ساخرة (وكالات التصنيف''أمك صنافة''). ما هو رأيه في البرنامج الذي أرسلته الحكومة إلى صندوق النقد الدولي؟ أليست هذه سياسة تعكس تمامًا ما دافع عنه دائمًا؟ الرئيس يلعب دور النعامة بإتقان تاركا نجلاء بودن تتخذ مآلات البلاد بمفردها وكأنّها تحكم بلدا آخر.
الموضوع الأخير ، وهو ذو أهمية قصوى في نظر رئيس الجمهورية ، موضوع الدستور واستفتاء 25 جويلية. كيف يتم إعداد هذا الدستور؟ يتم تنحية التونسيين جانبًا ولا يعرفون شيئًا عن ذلك. المعلومات الصغيرة المفلترة حول مسودته ، مدينون بها لصحيفة المغرب اليومية. وعلى الرغم من الجدل الذي أثاره حذف الفصل الأول من دستور 2014 الخاص بدين الدولة ، إلا أن رئيس الجمهورية لم يخرج من صمته ولم يُحدّد موقفه إزاء ذلك.
أما بالنسبة للاستفتاء ، فلم يسرّب الرئيس أي شيء عن توجهاته في حال رفض التونسيين مسودة دستوره أو في حال كانت نسبة الإقبال على الإستفتاء ضعيفة. أما على الصعيد الدولي ، كان رئيس الجمهورية متخصص دائما في الشعارات الرنانة الصادحة بسيادة الدولة واستقلالية القرار الوطني.
وهنا يُطرح هذا السؤال، هل استراتيجية الصمت التي يتبعها قيس سعيد لمدة أسبوعين هي الاستراتيجية الصحيحة؟
سواء أحب ذلك أم أبى ، يجب على رئيس الجمهورية أن يتحدث إلى التونسيين وأن يكون مسؤولاً أمامهم. يجب عليه التحدث معهم وإيصال خططه إليهم. يجب أن يطمئنهم أو يخبرهم بالحقيقة.
يشقّ قيس سعيد طريقه بمفرده دون استماع أو استشارة أيّ أحد. هل يعتقد أن المشاكل والخلافات ستختفي بطريقة سحرية عندما يدفن رأسه في الرمال؟
ترجمة عن النصّ الفرنسي ( يسرى رياحي)
تعليقك
Commentaires