قيس سعيّد مع القضاة وخلف القضاة وأمام القضاة
رئيس صادق ونزيه .. أستاذ في القانون الدستوري وزوج امرأة قاضية تحظى بسمعة طيبة : كنا نعتقد أن قيس سعيّد سيعيد للقضاء المتردّي توهّجه ومكانته المرموقة، بعد أن نخره الفساد والزبونية .. لكن كيف للوضع أن يكون خلافا لذلك وقد عانى هو من هذه المنظومة في الماضي.
منذ فاز في انتخابات 2019، انطلق الحلم في تحقق قضاء عادل ونزيه، قضاء لا يميّز بين الأغنياء والفقراء، بين الأقوياء والضعفاء، بين رجال السياسة والمواطنين من عامة الناس.
بما أنه درّس القانون للمئات من القضاة الذين يمارسون هذه المهنة اليوم، كنا على قناعة راسخة بأن قيس سعيّد يمثّل مع القاة جسما وكيانا واحدا .. كان يعرف كل التفاصيل عن الجميع .. كان يعلم من الفاسد ومن الجشع، من الذكي ومن الأحمق.
القضاة هو الحلقة الأضعف في تونس .. لو تعهّدناه بالتطهير ستسير الأمور على ما يرام .. وهي قناعة راسخة لدى قيس سعيّد ما انفك يعبّر عنها في مناسبات عدّة .. ولم يبق له سوى أن يقرن القول بالفعل .. لكننا بقينا ننتظر .. من 2019 إلى 2021، لم يقم قيس سعيّد بأية خطوة في اتجاه تطهير القضاء .. لا وجود لأي مشروع قانون ولا أي مقترح ملموس لإصلاح السلك القضائي .. في جويلية 2020 وعلى إثر فضيحة أخرى قضائية جديدة سارع الإسلاميون إلى وأدها وكتم أنفاسها، تدخّل قيس سعيّد أخيرا وقرر أن "يفتح ملف قضاء البحيري" وهو ما كتبت عنه شخصيا في تلك الفترة معتقدا بكل سذاجة أن مرحلة تطهير القضاء قد بدأت .. ولكن لا شيء جد بعد ذلك .. لم نسمع سوى كلمات .. رغم قربه من القضاة ورغم أن زوجته قاضية ... فإنه إخلالاته هذه جعلت منه طرفا متواطئا معهم بما أنه وقف عاجزا أما هذا الجسم المريض.
جويلية 2020، الإنقلاب .. فليستخف الرئيس بعقولنا بتسمية ما حدث "تصحيح المسار"، لكن الواقع هو أنه إنقلاب مكتمل الأركان .. لم يعد لدينا دستور ولا برلمان .. تم إصدار قانون المالية دون مناقشته .. كان لدينا سياسيون قيد الإقامة الجبرية وممنوعون من السفر وآخرون سجناء سياسيون وراء القضبان في السجون.
والعدالة في كل هذا ؟ مازالت تترنّح وتعاني من مرضها العضال.
يوم الخميس الماضي، تم إطلاق سراح مغني الراب سواغ مان بعد أن قضّى ما يقارب عن عامين في السجن .. قررت محكمة الإستئناف بتونس تبرئته لانتفاء أدلة على وجود جريمة .. بعد إيقافه في جويلية 2019، تم الحكم عليه بخمس سنوات سجنا مع النفاذ العاجل في الطور الإبتدائي .. ثم تم إطلاق سراحه مؤقتا في جوان بكفالة قدرها 200 ألف دينار .. الآن وقد تمت تبرئته، من سيعوّضه على تلك الفترة التي قضاها في السجن وما انجر عنها من تأثيرات لا تمّحي ؟
يوم الثلاثاء الماضي، أربعة من قتلة الشهيد لطفي نقض تم الحكم ضدهم ب16 عاما مع النفاذ العاجل .. منذ سنوات قليلة تم الحكم لفائدتهم بإطلاق سراحهم .. في هذه الحال كانوا أحرارا طلقاء في الوقت الذي يفترض بهم أن يكونوا في السجن .. من سيتولّى القبض عليهم الآن بعد أن اختفوا في الطبيعة ؟
هذا الحكمان الصادران خلال الأسبوع الماضي يجسدان لوحدهما، الصعوبات الكبيرة التي يعاني منها القضاء التونسي .. يوميا تصدر عشرات الأحكام المماثلة تعلن فيها محكمة الإستئناف عن قرارات متناقضة تماما مع أحكام المحكمة الإبتدائية.
في الديمقراطيات العريقة والمحترمة، حين يصدر أحد القضاة في الطور الإستئنافي حُكما مناقضا لحُكم زميله في الطور الإبتدائي، يتم مباشرة استدعاء هذا الأخير أمام مجلس التأديب لتبرير قراره .. إذ لا يعقل أن ينطق قاضيان بحكمين متناقضين في قضية واحدة .. في تونس أصبح هذا الأمر العجيب خبزنا اليومي.
في الديمقراطيات المحترمة، عادة ما يصدر قضاة الإستئناف أحكاما أقسى من تلك المنطوق بها في الطور الإبتدائي وهو ما من شأنه أن يثني المذنبين ويحبط عزائمهم وأن يخفف العبء عن المحاكم .. في تونس الأمر مختلف تماما ففي معظم الأحيان تكون الأحكام الصادر في طور الإستئناف أخف من تلك الصادر عن الطور الإبتدائي.
في الديمقراطيات المحترمة، الحرية هي القاعدة وتقييدها هو الإستثناء .. في تونس يأمر القضاء بالسجن في حق المتقاضين كما لو أنهم يرسلونهم إلى الفنادق.
في الديمقراطيات المحترمة، قرينة البراءة تعلو فوق كل شي .. هناك يفضلون إطلاق سراح مجرم على سجن شخص بريء .. وهنا في تونس يعدّ الأبرياء القابعون في السجون بالمئات.
كان بإمكاننا أن نتوقّع أن يهتم قيس سعيّد بكل هذه الإخلالات وهذه الإنتهاكات لمبادىء القانون وما كان لأحد أن يتهمه بالتدخل في عمل القضاة .. بل كنا سنعتبر أن ذلك يندرج في صميم صلاحياته كانقلابي يريد بالفعل تصحيح المسار وتطهير القضاء.
غير أن الرئيس فضّل الضغط على القضاء، من خلال دعوته في عديد المناسبات منذ 25 جويلية، رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس دائرة المحاسبات ورئيس المحكمة الإدارية ... كان في كل مرة يطالب القضاة بالإنكباب على ملفات بعينها والزج في السجون بأشخاص محددين .. في تفكيره هو، كرئيس للدولة، هناك أشخاص فاسدون لا بد من الزج بهم وراء القضبان، حتى وإن كانوا في الواقع أبرياء. هو يعتمد على بعض التدوينات الفايسبوكية وتقارير الاستخبارات وبناء على ذلك فإن فلانا هو شخص فاسد وما على القضاء إلا إثبات ذلك .. انتهى الأمر.
أي أن الضغوط تمارس على القضاة وفرق التحقيق واللجنة التونسية للتحاليل المالية وغيرها ... محامو "الفاسدين" يتحدثون عن تقارير "خيالية" تحال إلى قضاة التحقيق .. أحد هذه التقارير (صادر عن اللجنة التونسية للتحاليل المالية) يرتكز على مقال إعلامي نشر في إحدى صحف الإثارة بقلم صحفية تم توبيخها في عديد المناسبات.
قيس سعيّد هو من يقف وراء تعهّد القضاء العسكري بملفات خصومه السياسيين من جماعة ائتلاف الكرامة .. وهو أيضا من يقف وراء سجن شخصين (مدوّن وصحفي) تم الحكم عليهما من طرف القضاء العسكري.
قيس سعيّد هو من كان وراء وضع العديد من السياسيين قيد الإقامة الجبرية، ضحايا تصفية حسابات بعض رواد الفايسبوك من حثالة المجتمع. وضعهم قيد الإقامة الجبرية دون أي تفسير أو تبرير أو توضيح ثم رفع عنهم القرار، كذلك دون تفسير أو تبرير أو توضيح.
قيس سعيّد هو أيضا من اتهم بالفساد بعض الوزراء المقترحين من هشام المشيشي والذين لم يوجّه لهم القضاء إلى غاية اليوم أية تهمة.
قيس سعيّد ينفي عنه تهمة التدخل في شأن القضاء لكن الواقع أثبت عكس ذلك .. فهو خلف القضاة .. يمارس عليهم الضغوط بطريقة مباشرة (عبر أحد مستشاريه سأتكتّم عن إسمه حاليا) وبطريقة غير مباشرة من خلال دعوة رؤساء الهيئات القضائية.
ما انفك قيس سعيّد يؤكّد عاليا أنه متمسّك بتطبيق القانون .. والواقع يعكس خلاف ذلك .. هو ينتهك المبادئ القانونية وعلى رأسها مبدأ قرينة البراءة.
من المفارقات أنه تقدّم بشكوى ضد أولئك الذين اخترقوا القضاء ووظفوه واعتدوا على القانون طيلة سنين .. نور الدين البحيري يتصدّر قائمة هؤلاء ومن بينهم كذلك عبد الكريم الهاروني الذي فعل المستحيل من أجل الإفراج عن إرهابيي سليمان.
بتواجده خلف القضاة، سواء لتصفية حسابات شخصية أو لإشباع رغبة لديه في الإنتقام، لا يخدم قيس سعيّد مصلحة القضاء والقانون، بل يتسبب في تقهقر القضاء والبلاد سنوات ..
فماهي عاقبة كل هذا ؟ أنا أنتمي إلى فئة السذّج الذين يعتقدون في وجود عدالة فوق الأرض وأن العدل يخرج دائما منتصرا .. وأن كل هؤلاء الأبرياء القابعين ظلما في السجون، سيتم حتما إطلاق سراحهم .. كل هؤلاء المجرمين الذين فروا من العدالة، بفضل الأموال والوساطات، سنتهي بهم الأمر بتوجيه التهم ضدهم والحكم عليهم.
كيف سيكون مصير قيس سعيّد ؟ سينتهي به الأمر، يوما ما، إلى أن يكون محل مساءلة من قبل القضاء، من أجل كل المظالم التي هو بصدد اقترافها اليوم.
آجلا أم عاجلا سينتهي به الأمر بالوقوف أمام القضاة .. نادرا ما يفلت المستبدون من قبضة العدالة، سواء عدالة القضاء أو عدالة الشارع.
البعض قُتلوا والبعض الآخر انتهى بهم المطاف كلاجئين في الخارج وغيرهم قضوا بقية حياتهم في السجون.
بسبب كل المظالم التي يقترفها اليوم، سواء عمدا أو عن غير قصد، فإن قيس سعيّد لن يفلت من العدالة .. هذا أمر بديهي، بل حتمي .. فهو يرتكب الكثير من الأخطاء حتى يفلت من القضاء.
من بين هذه الهفوات، وهي هفوة مُضحكة، الأمر 117 بتاريخ 22 سبتمبر والذي بموجبه قام بتعليق عدة فصول من الدستور .. في الأمر 117 نسي الرئيس أن يمنح لنفسه الحصانة القضائية التي كان ينص عليها الدستور.
تعليقك
Commentaires