قيس سعيّد ونظرية الحلقة المفرغة
فلتخفّض وكالة "موديز" من تصنيفها الائتماني لتونس كما تشاء .. نحن منشغلون بأشياء أخرى. كان الأسبوع الماضي كسابقه حافلا بالأحداث التي لا علاقة لها بما يفترض أن تكون في صميم أولوياتنا الوطنية.
ما انفكت تونس تقترب شيئا فشيئا من الإفلاس لتعيش سيناريو مماثلا لما عرفه اليونان .. لكن من منشغل بهذا الوضع ؟ لا أحد.
جائحة الكوفيد 19 تكتسح البلاد أكثر فأكثر .. لكن من يتابع تحذيرات اللجنة العلمية ؟ لا أحد.
ما الذي شغل المشهد السياسي في تونس خلال الأسبوع الفارط ؟ يوم الإثنين تجاهل عدد من نواب الشعب وكيل الجمهورية من خلال رفضهم المثول أمامه بداعي تمتعهم بالحصانة البرلمانية حسب زعمهم.
يوم الجمعة يتحدّى رئيس الحكومة كل منتقديه بالوقل إنه باق في منصبه بفضل حزامه السياسي .. هذا الحزام المتكوّن من حزب تمويلاته مشبوهة وحزب آخر تتعلق برئيسه شبه تبييض أموال وحزب ثالث تورّط أعضاؤه في عديد المناسبات في أعمال عنف وفي الدفاع عن إرهابيين.
يوم السبت وفي ساعة متأخرة من الليل، يوجّه الرئيس قيس سعيّد، كتابا (في شكل مخطوط) لرئيس البرلمان، يعلمه فيه برفضه التنقيحات المدخلة على مشروع القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية .. وهو أسلوب آخر للتأكيد على أن هذه المحكمة لن ترى النور مادام هو في قصر قرطاج.
لذلك علينا أن نؤجل أولوياتنا الإقتصادية والصحية .. ولننكب على التفاهات وما لا ينفع الناس في شيء.
مشكلة المحكمة الدستورية هي بالأساس معضلة نخبة .. كثيرا ما وصفناها بالتافهة ولكنها تبقى مع ذلك جوهرية .. طالما قلنا إن أولويات الساعة هي اقتصادية وصحيا، ومع ذلك يلزمنا إيجاد حل لمشكلة المحكمة الدستوري في أقرب الآجال .. كما لو أننا كنت بصدد لعب مباراة دون حكم .. لكن لابد لنا من حكم يفصل بين مؤسسات الدولة.
رئيس الجمهورية له رأي مخالف وهو يعتبر نفسه من عامة الشعب (الذي لا يهمه أمر هذه المحكمة أصلا) .. الرئيس قرّر تأجيل إحداث هذا المؤسسة إلى أبد الآبدين.
ولتبرير موقفه نجح الرئيس مرة أخرى في مفاجأتنا .. أولا من حيث التوقيت، فقد ترك كامل أيام الأسبوع ليتحرك في الساعات الأخيرة منه، ليرسل مخطوطه الذي يعلن فيه عن رفضه للمشروع الجديد .. لماذا كل هذا التأخير ؟ لا أحد يعلم.
ثانيا من حيث الشكل، فقد اختار الرئيس خطا عربيا ضاربا في القدم (يستحيل على الكثيرين فك شفرته) لكتابة مخطوطه .. كتاب مليئ بالآيات القرآنية وبالرسائل بين السطور وبالحكم على النوايا.
لنتحدّث الآن عن المضمون فناك مربط الفرس.
أشار رئيس الجمهورية في الفقرة الخامسة من مخطوطه إلى الفصل 148 من الدستور لتفسير موقفه الرافض لمشروع قانون المحكمة الدستورية.
وتنص الفقرة على ما يلي: "يتم في أجل أقصاه ستة أشهر من تاريخ الانتخابات التشريعية إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وفي أجل أقصاه سنة من هذه الانتخابات إرساء المحكمة الدستورية".. أي أن رئيس الجمهورية يقول لنا إننا تجاوزنا الآجال القانونية لتركيز المحكمة الدستورية وبالتالي فإنه سيستحيل علينا تركيزها.
وباستثناء إمكانية العودة بالزمن، فإنه لا بد من تعديل الدستور .. لكن الأمر ليس بهذه السهولة لأن تعديل الدستور لا يتم إلا بوجود المحكمة الدستورية.
قد تبدو الأمور مستعصية للبعض منكم ؟ سأبسّطها لكم .. لا يمكن إحداث محكمة دستورية إلا بعد تعديل الدستور ولا يمكن تعديل الدستور إلا بوجود محكمة دستورية .. أي أننا ندور في حلقة مفرغة.
وبخصوص الأحكام على النوايا وقد جاءت صريحة في الرسالة، فإن رئيس الجمهورية تراوده الشكوك في أن البرلمان يسعى إلى تنحيته وإخراجه من قصر قرطاج في صورة ما تم تركيز هذه المحكمة.
حتى لو كانت هنالك بعض الشكوك في الماضي فإنها الآن قد تبدّدت .. هناك أزمة ثقة فعلية بين رئيس الجمهورية والبرلمان. غالبية مجلس نواب الشعب (حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس) معادية للرئيس وهو يدرك ذلك جيدا .. ويعلم أن هناك من هو بصدد نصب الفخاخ له في علاقة بهذه المحكمة الدستورية. لكن ما العمل إذن ؟ هل باستطاعتنا المواصلة دون حكم ؟
هناك زاويتان للمقاربة بخصوص هذه المسألة:
إذا ما قُدّر لهذه المحكمة الدستورية أن ترى النور الآن، فهذه ستكون كارثة حقيقية .. فكيف يمكن الوثوق في محكمة تم اختيار أعضائها من قبل ثلاث مؤسسات محل الكثير من الإنتقادات ؟ ..
أربعة أعضاء في هذه المحكمة يتم انتخابهم من قبل المجلس الأعلى للقضاء الذي يتخبّط في فضيحة القاضيين الطيب راشد والبشير العكرمي. فهل نثق في هذا المجلس لينتخب أربعة أعضاء نزهاء ومستقلين في المحكمة الدستورية ؟ بالطبع لا !
ثلاثة أعضاء متبقون مازال سينتخبهم البرلمان .. فهل نثق في النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة لاختيار ثلاثة أعضاء نزهاء ومستقلين في المحكمة الدستورية ؟ لا !
أربعة أعضاء آخرون سيعيّنهم رئيس الجمهورية .. فهل نثق في رئيس فشل في اختيار رئيسين للحكومة وقد تقدّم مستشاروه تباعا بالاستقالة ؟ بالطبع لا !
الأكيد أن المحكمة الدستورية في صورة تركيزها اليوم ستكون كارثة ! فأعضاؤها ستتعلق بهم بعض الشبهات قبل حتى أن نعرف أسماءهم.
من ناحية أخرى وهنا تأتي الزاوية الثانية من المقاربة .. لا يمكننا أن نبقى طويلا دون حكم ونترك رئيس الجمهورية يقرر بمفرده، دون أن يحدد له أي شخص أو طرف صلاحياته في ما يتعلق بدستورية القوانين.
خلاصة القول هذا هو السؤال الذي ينبغي طرحه في نهاية الأمر .. أين تكمن مصلحة البلاد، في تركيز محكمة دستورية تتكون تركيبتها من أعضاء مشكوك في نزاهتهم واستقلاليتهم أو عدم تركيزها وترك الرئيس يقرر حسب أهوائه ؟
مما لا شك فيه نحن اليوم أمام مأزق ولم نجد إلى الآن كبش فداء نحمّله مسؤولية الوضع الراهن.
تعليقك
Commentaires