يوسف الشاهد - الطموحُ أهــم من الخِبرة.. أحيانًا
غدًا صباحًا لن تشهد الطريقُ السريعة تونس-البُحيرة ازدحامًا، ولن يعلو -أمام مقر الهيئة العليا المُستقلة للإنتخابات- هُتاف بحياةِ أيّ من الزعماء. هدوء! أعضاءُ الهيئة انطلقوا في مهامهم -الحقيقيّة- للتّو، طيلة الأسبوع المنقضي كانت الهيئة الكائنة بضفاف البحيرة، مكتب ضبطٍ يستقبلُ المطالب فحسب. الآن، عادت هيئةً دستوريّةً تستمدُ من الدستور، والتشاريع، شروط قبول المترشحين للرئاسية.
في حيزٍ غير بعيد، لمْ تكن المشاهدُ التّي رافقت إيداع رئيس الحكومة يوسف الشاهد ملف ترشحّه صبيحة اليوم مُريحةً، لعينِ الناظِر الذي يقف على المسافةِ ذاتها من جميعِ الترّشحات. مشاهد شوّهت لحظة الإنسجام الوطنيّـةِ، التي صالحتْ بين التونسيّ والسياسةِ التي عزِف عنـها مُكرهًا. ما ساءَ، هو التجمّـعُ (لا الحزب المُنحل وشُـعبهُ وتصفيقه..) الغريبُ لمواطنينَ يهتفون بحياةِ الشّاهد، ويرفعون شعاراتٍ ظنّا أن التاريخَ قد أسكت دوّيها، يوم 14 جانفي 2011. شعبويّة معكوسة، لا تلك التي تصدر من السياسي، بل التي تصدرُ من المواطنين. لولا بعضُ الشعاراتِ التي تسربت من فجوةٍ ما في الزمكانِ وانطلقت في فضاء اللحظةِ، من قبيل "الشاهد ماكيفو حد" ، "الشاهد يا بطل" ، "بالروح والدم نفديك يا الشاهد". لكان ترشّح الشاهد حدثًـا سياسيّا عاديّا في بلد يُساوي بين رئيس الحكومة والفلاح والعاطل عن العمل والمِثلي والنساء، مساواةً فعلية، ويولي لترشح أية منهم للرئاسة نفس القدرمن الإهتمام.
التجمهرُ الإستعراضيّ الذي سبق قدوم الشاهد لمقر الهيئة، ثم رافقه، ثم انتظر خروجه بعد إيداع الملف، هوعثرة إتصاليّـة أفسدت لحظةً ترشح الأربعينيّ الطموح. ولا يمكن الجزم بأن الشاهد أو مستشاريه الإتصاليين هم من خططوا لتجمع مناصريهِ، ولو كانت بعض اللافتات تحمل شعاراتِ تنسقيات جهوية لحزبه، تحيا تونس. بعيدًا عن لحظة الترشح، وبعودةٍ الى الأربع سنوات التي صنعت من الشاهد مرشحا للرئاسية، الواقعُ أن طموحـه قد غلب خبرة العديد من الساسةِ الذي مارسوا اللعبة قبل أن يولد يوسف الشاهد، في 1975. البعضُ كان حينها "مناضلا" تحت نير نظام بورقيبة، بعضهم كان يقرأ إقتباساتٍ لكارل ماركس في إجتماعٍ عامٍ بكليّـة الحقوق أو يوزع المناشير الثورية عن مايحدثُ في العراق في المبيتاتِ والمطاعم الجامعية، بعضهم كان يخطط لتفجيرات في سوسة والمنستير استئناسًا بكتب حسن البنا.. والبعض كان يستغل المصعد الإجتماعي لدخول السياسةٍ محاميا أو قاضيا أو كاتب دولة، لتنطلق مسيرته السياسية من هناك.
أمّا مسيرة يوسف الشاهد السياسية، فهي بعـُمر الثورة. ثمانُ سنواتٍ. في 2011، كان يبلغُ من العمر 36 سنة وكان حينها رئيس "حزب الوسط" الذي تأسس في اللحظة الثورية النقيّة التي عاشها التونسية في الشهر الذي لحق الثورة.. قبل أن يتسرب الصراعُ الهوياتي الى مجتمع منتشٍ بوحدتهْ. في 2012، تأسس حزب الجمهوري، حزب وسطي تقدمي تترأسه مناضلة وطنية، الراحلة مية الجريبي. انصهر حينها حزب الشاهد مع الجمهوري، وانطلقت مسيرته الجادة مع حزب ذو ثقل مهم، انتقل منه الى نداء تونس في 2013 وسرعان مـا تمكن من الصعود الى المكتب التنفيذي الوطني. ثلاث سنواتٍ في نداء تونس، كانت كفيلة بطرح إسمه لرئاسة الحكومة في 2016، خلفًا للحبيب الصيد. ثلاث محطاتٍ صنعت من الرجل مرشحًا لرئاسة الجمهورية، الجمهوري، نداء تونس، رئاسة الحكومة. مالم يفعلهُ بعض المرشحين منذ السبعينات، فعلهُ الشاهد -رغم زلاتٍ وأخطاء عديدة- في أقل من عقد من الزمن.
الثورة، ورغم مُعارضيها ومُنكري فضلها قد صنعت مصعدًا سياسيا فاق الخبرة وسنوات "النضال" وأطروحات الدكتوراه. الثورة، هي من فتحت أبواب الطموح السياسي وخلقت قواعد جديدة للعبة السياسية في البلد، خاصّة أن الرأي العام التونسي يميل الى كونه صاحب ذاكرة قصيرة، لا تعنيه تجارب الماضي البعيد ولا يظن أنها حجج على الكفاءة، عمومًا.
المسار السياسي للشاهد هو ترجمة لذلك، جعله دخول الحياة السياسية -بعد الثورة- شخصية محوريّة في السلطة التنفيذية ومرشحا وافر الحظ لأعلى منصب في الدولة، رغم الهنّات التي رافقت منصبه في رئاسة الحكومة، وإعادة إنتاجٍ لنفس المنظومة التي غرق فيها المهدي جمعة والحبيب الصيد. التغيير الحقيقي يستوجب وقتًا، وهو ما لايمكن تحقيقه في منصب وقتي، منصب رئاسة الحكومة قصير النفس الذي يمكن انهائه بجلسة سحب ثقة أو إعتصامِ رحيل. لم ينجح الشاهد في رهانه الإقتصادي أو المالي أو الإستثماري، وهي مجالات تسير بالتوازي مع بعضها. لم ينجح كذلك في الرهانات الإجتماعية، والمطلبية، المرتبطة بالبطالة أساسًـا. من جهة أخرى، انفرد بإعلان حربٍ على الفساد، ستتصدر برنامجه الإنتخابي المقبل، وشهد فترته إستقرارًا أمنيا نسبيا تحوّلت فيه حتى أكثر الهجمات الارهابية مركزيّة الى مادة فكاهيّة. الطموحُ أيضا، أدى إلى خروجه من ظل نداء تونس، الذي أراد عبر تعيينه رئيسا للحكومة مزيدًا من التموقع في الحكم. ولعل تأسيس حزبه السياسي الخاص هو أبرز دليل على خطط الرجل لمستقبل سياسي لا يكون فيه أداةً أو بيدقًا في رُقعة شطرنجٍ لاعِباها النهضةُ والنداء، عزِم الرجل أن يصبح ملِكا في الإستعارة، رئيس جمهورية في الحقيقة! بدأ رئيسا لحزب هامشي صغير، معارض، وبفارق 8 سنوات عاد رئيسا لحزب، انتصر قبل أن يدخل الحرب- وأضحى له نوّاب ووزراء، ولد داخل السلطة، وأغلب الظن أنه سيظل فيها للخماسية السياسية القادمة. يصبو الشاهد بثقةٍ الى قرطاج. لكنه ليس الفتى الحالم الوحيد، كثيرون من يُشاركونه صفة الطموحِ، مع إختلافات عديدة. وكان الشاهد مدركا جيّدا لذلك، عقب تصريحه الإعلامي الذي لحق إيداع ملفه. بدأ كلمته بالترحم على رئيس الجمهورية، دلالةُ ذلك أنه يعترف بفضل رئيس الجمهورية، إعتراف متأخر جدا، لكنه كافٍ. الشاهد لم يفته أن يمرر رسائل في تصريحه القصير. أمام انتقادات للضعف الإتصالي لعبد الكريم الزبيدي، وزير الدفاع المستقيل والمرشح للرئاسية، شدد الشاهد أن منصب رئيس الجمهورية يستوجب قدرة إتصالية. الزبيدي كان مُحاطا بمستشاريه، الذين عمدوا الى التقليل من شأن الصحافيين، أما الشاهد فكان وحده، وترك المجال لأسئلة الصحافيين دون أن يحتكر الكلمة ويحول النقطة الإعلامية إلى منبر خطب. ولمح رئيس الحكومة ، الى أن المترشح للرئاسية يجب أن يكون الى جانب تشبعه بالدستور وروح القانون وفلسفة الدولة، نظيف يد، في رسالة محتملة الى المترشح المنافس عن حزب قلب تونس، نبيل القروي. نبيل القروي تحوم حوله اتهامات بالفساد، وهو غريب عن الجهاز السياسي الاعتيادي- وعن مقاربات القانون والدولة التي لم يتحمل يوما منصبا فيها، وهو عكس الشاهد يجهل تركيبتها من الداخل. رسالة أخرى أيضا، هي في الواقع تحد للنهضة، لم يسها الشاهد في تصريح واضح، ولكنه أكد على عدم استقالته من الحكومة، متوجها في ذلك الى قياديي الحركة الاسلامية الذين سبق وصرحوا أن ترشح الشاهد للرشاسية يقتضي استقالته من رئاسة الحكومة. علاقة الشاهد والنهضة كانت –كأي علاقة داخل اللعبة السياسية- علاقة مصالح مشتركة، في ظل توافق أو وحدة مؤجلة النهاية. هي ليست علاقة تحالف بسبب تقارب فكري أو حزبي، فاق فيها طموح الشاهد الى الرئاسة شروط الحركة التي قررت في اللحظات الأخيرة ترشيح عبد الفتاح مورو.
في تصريح لسليم العزابي، أمين عام حركة تحيا تونس أكد هذا الأخير أن "الشاهد لا ينتظر دعم النهضة"، في رد على تصريح عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس شورى الحركة الاسلامية الذي علل ترشيح الحركة لمورو بقوله "لسنا صندوق دعم..". العزابي أكد أن "الشاهد رفض دخول بيت الطاعة" في احالة محتملة الى حزبي النهضة والنداء، " ورفض املاءات التعاون مع الفاسدين والمهربين المارقين عن القانون" في احالة محتملة الى رجال الأعمال و"أصحاب القنوات".
الشاهد كان قد أكد بوضوح- أرفقه بابتسامة ساخرة أمس خلال اجتماع حزبه، أنه ليس "عصفورا نادرا". الصعود التراتبي في المناصب الذي جعل النهضة تراهن على الشاهد في حربها ضد قائد السبسي، هو ذات الصعود الذي يخيفها الان. عكس مورو، لم يدخل للسياسة من باب النضال، هو جزء من جيل جديد (لا يمكن القول بأنه شاب) ينتهج مقاربة "سياسة المراحل". خطوة خطوة، مهمة مهمة، في صعود طبيعي للسلم الاجتماعي. هو عكس مورو، لا يختتم مسيرته، بل مسيرته، انطلقت للتو.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires