وقريبا سيصير لكلّ مدينة قلمّسها
" كانَ القَلَمَّس الكِناني من نَسَأةِ الشُّهور على مَعَدٍّ، كان يَقِف في الجاهِلِيَّة عندَ جَمْرَةِ العَقَبَةِ فيقول: اللهم إنّي ناسِئُ الشُّهور وواضِعُها مَواضِعُها ولا أُعابُ ولا أُحابُ، اللهم إنّي قد أحْلَلْتُ أحَدَ الصَّفَرَيْن وحَرَّمْتُ صَفَراً المُؤخَّرَ، وكذلك في الرَّجَبَيْن؛ يعني رَجَباً وشَعْبان، ثُمَّ يقول: انفِروا على اسمِ الله ".
صورة أثبتتها كتب القدامى في حديثهم عن إثبات الأهلّة في أشهر العرب، وقرنوها بمسألة الأشهر الحرم والنسيء.. وإلى اليوم مازالت العرب تعيش تحت وطأة هذا الحمل الثقيل الذي ارتهن الأذهان والأعمال.. بل وحتى مشاريع المؤسسات ومستقبل التلاميذ والطلبة..
عشنا ليلة الاثنين لحظات كم أودّ لو تمحى من ذاكرتنا، لأنّها لحظات أشعرتنا أنّنا أمّة مرتهنة من طرف طائفة من أناس نصّبوا أنفسهم نخبة علينا وزكّت الدولة هذا التنصيب.. أناس ضربهم الغرور في أنّهم الأعلم والأفهم بل والأدرى بمصيرنا وبكيفية علاقتنا بالله.. جلسنا أمام التلفاز ننتظر طلعة مفتينا البهية التي تأسر أعيننا في مناسبتين من كلّ سنة ليلة إثبات رؤية هلال رمضان وليلة إثبات رؤية هلال العيد..و بقينا ننتظر وننتظر.. والبعض منّا يبحث عن عالم منهم علّه يعثر عليه في الفايسبوك.. فإذا هم منغلقون على أنفسهم يتناقشون ويتجادلون.. وبين الحين والآخر يصدر أمر من " قلمس" بلد ما ليعلن عن قرار أهل الحلّ والعقد ببلده إن كان يوم غد الثلاثاء عيدا أم آخر أيام رمضان.. وتضاربت الأنباء وتوتّر الناس في بيوتهم.. وهم ينتظرون طلعة المفتي المفدّى الذي بدونه يظلّ صيامهم معلّقا، وأبواب السماء موصودة في وجوههم.. وعندما كلّت الأبصار و جفّت الأفواه نزل علينا منقذنا ليعلن أنّ الهلال امتنع عن الظهور استنادا إلى الرؤية " الشرعية المستأنسة بالحساب"؟؟؟؟ عندئذ أمكن لنا نحن الرعية أن نرسم برنامج أيامنا القادمة ، مثلما أمكن للكثيرين الذين يشتغلون في الخاصّ أن يتأكّدوا أنّ يوم غد هو يوم عمل، وعليه يتعذّر عليهم السفر إلى أهاليهم للاحتفال بيوم العيد..
ومع ذلك، أصبحنا وأصبح الملك لله والشارع خال نائم في سبات.. وإذا بالأخبار تأتينا لتنبئنا أنّ قلامسة الجزائر رأوا الهلال.. وإذا بالأنباء تتضارب في شأن ليبيا لتتأكّد فيما بعد وتعلن أنّ قلامستها رأوه أيضا.. وهنا تساءلت: كيف يمكن لقلامستنا وهم بمثابة "الكامخ" في " الشاطر والمشطور" أن يعجزوا عن رؤية الهلال؟ أم إنّ لنا سماء خاصّة بنا دون غيرنا؟ في الحقيقة لم تغب النكتة عن التونسيين فانتصبوا هم أيضا قلامسة وأفتوا لمن يسكن قريبا من قسنطينة أن ينتقل إليها ويصلّي صلاة العيد ويفطر هناك ليعود في المساء إلى بيته .. ويكون قد ضمن بدل العيد عيدين.. والحقيقة أقول : حمدا لله أنّ النكتة بقيت حاضرة لتخفّف عنّا الرزايا والمصائب.. صحيح أنّها نكتة صفراء ومريرة ولكنّها تزيح عنّها على الأقلّ أدران الجهل الذي نعيش.
قلت جهلا.. وقد استبدل اللفظ بالانبتات والضياع والسبب بسيط.. وأوضّح:
كنّا منذ الاستقلال نطبّق الحساب الفلكيّ في إثبات الأشهر القمرية.. وكانت أمورنا تسير في انتظام لا توتّر فيها؛ وكانت أعمالنا قائمة على أسس صلبة، سواء من حيث سير الكليات والمدارس أو من حيث سير الإدارة وتقرير مواعيد الاجتماعات.... وإذا " بالتقارب " بين بن علي و الإخوان يُحدث كسرا في عمل الدولة، هو كسر لكن لم نتفطّن إليه إلاّ بعد 2011، لأنّ بن علي كانت بيده سلطة الدولة، أقرّ الرؤية وفي نفس الوقت فرض الحساب، ولم تفاجأ الإدارات البتة بتعطّل أعمالها.. لكن عندما تلاشت قوّة الدولة وتربّع الإخوان فُرض علينا التدحرج إلى الوراء لنجد أنفسنا في وضع البداوة التي لا يضيرها ترك الحابل على النابل، وتسليم مصالح العباد والبلاد لفرقة رأت نفسها المؤهّلة الوحيدة لتكون الناجية وتضمن انضباطنا حتى نسير قدما في الطريق المستقيم الذي اختارته لنا نحو الجنّة.. وهنا بيت القصيد الذي ألخّصه في سؤال بسيط:
هل إنّ العمل بالرؤية أمر مقدّس من الله؟ وهل إنّ اتباع الحساب الفلكي يقودنا إلى الكفر بالله وبنبوّة محمّد؟ فنكون من أهل الزيغ و يفتح أمامنا أبواب جهنّم؟
عدت كعادتي إلى مصنّفات القدامى بعد أن طرحت جانبا كلّ ما لديّ من معلومات.. وبحثت عن آيات تأمرني ، أنا المسلمة، باتباع الرؤية فلم أجد سوى واحدة البقرة 185 " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" فهمت معاني كثيرة من هذه الفاصلة القرآنية ، وأكتفي بذكر أهمّها: أوّلها أنّ الله لم يعيّن قلمّسا ليرى بدلا عنّي، وثانيها، وهو الأهم لاقترانه بالملحوظة السابقة، أنّ فعل شهد ليس في معنى الرؤية والمشاهدة لأنّ الشهر لا يرى وإنّما الهلال الذي يرى، فنحن نعيش أياما، وعلى هذا الأساس فالآية تشير إلى الصوم إذا وُجدنا في بلد ثبت فيه الصوم.. ورجاء لا ترموني بالبدعة فقد أثبت قدامى المفسّرين هذا التفسير، يقول القرطبي" وليس الشهر بمفعول وإنما هو ظرف زمان. وقد اختلف العلماء في تأويل هذا، فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وسويد بن غفلة وعائشة - أربعة من الصحابة - وأبو مجلز لاحق بن حميد وعبيدة السلماني: "من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله في بلده وأهله فليكمل صيامه". على هذا الأساس ظلّ العمل بالرؤية أو الحساب مسألة خلافية عند القدامى، ولذلك التجأ مناصرو الرؤية إلى حديث مرويّ عن الرسول " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته" وليس في نصّ الحديث ما يلزمنا بالرؤية لأنّ العرب لم تكن لهم من وسيلة في العلم آنذاك سوى الرؤية بالعين المجرّدة، ولذلك كثيرا ما كانوا يختلفون في إثبات هلال رمضان أو شوّال: ورد في القرطبي" وحكى أبو عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين. روى مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبدالله بن عباس رضي اللّه عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا".. وذكر القرطبي أيضا موقفا للمالكية، ولا ننسى أنّنا مالكيون:" وأما مذهب مالك رحمه اللّه في هذه المسألة فروى ابن وهب وابن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء. وروي القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل له فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء". على الأقل نلمس حرصا على تفادي الاختلاف، لأنّ المسألة تجاوزت العقيدة والإيمان لتصير لصيقة بالسيادة والسلطة..
نتج عن ذلك يا سادتي أن تحوّلنا على أمّة ضائعة في عصرنا الحديث تتلاعب بها الأهواء، لأنّها تريد أن تنشر صورة للإيمان هي صورة إيمان القرون الوسطى، قرون ما كان يخلد بظنّ الناس آنذاك أنّ الاكتشافات العلمية في الفلك ستقود الإنسان إلى القمر وغيره من الكواكب.. وعليه فلن تعوقه عملية الاحتساب الدقيق للأشهر لقرون قادمة.. قلت صرنا مجتمعا ضائعا ولا أبالغ بل صار قلامستنا مثالا حيّا للضياع: لأنّ اثبات الرؤية لا ينحصر على شهري رمضان وشوال فحسب.. فأين موقفهم من شهر ذي الحجّة؟ لماذا يسكن كلّ واحد منهم ركنه؟ ولماذا يوزّعون علينا رزنامة الإفطار والإمساك لثلاثين يوما من رمضان ؟ رزنامة تخضع للحساب بالدقيقة والثانية.. أليس في عملهم كفر وزيغ؟ ثمّ ، عليهم أيضا التخلّي عن التوقيت في احتساب أوقات الصلاة كلّ يوم.. علينا أن نجلس أمام المساجد كلّ يوم ننتظر ثبوت الرؤية لصلاة الفجر والظهر..وصلاة العصر...والعشاء.. ثمّ يعود كلّ منّا فرحا مسرورا إلى بيته بعد أن أنهكه تعب الانتظار..
ولتذهب مشاريعنا في داهية وبرامجنا أدراج الرياح بما أنّ قلامستنا سيضمنون لنا الجنّة
تعليقك
Commentaires