ومِن نَكَدِ الدُنيا على المَرْءِ .. أَنْ يَرَى عَدُوّاً مَا مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ
وفي الأثناء تنتصب الحكومة على رؤوسنا مثل النيزك
رصدنا في مقالنا السابق حالات الفوضى التي وفّق التدافع في تحقيقها في أرضنا.. وحذّرنا من احتمال تعقّد هذه الظواهر واستحالة تجاوزها إن بقي المجتمع وحده يقاومها.. وننظر في هذا المقال في الأسباب والظروف التي ساعدت الإسلام السياسي على إنجاز طموحاته، أملا في تدمير بنية اجتماعية بناها بورقيبة وأرستها قيم الجمهورية .
لا أنكر أنّ بداية السعي إلى هذه المرحلة خضعت منذ 2011 إلى مراحل، ولا أنكر أيضا أنّ الإسلاميين كانوا في تلك الفترة هواة ويفتقرون إلى الحرفية في تحقيق برنامجهم. والسبب واضح أيضا: لجهلهم ببنية تفكير المجتمع التونسي، من جهة ، ولتوهّمهم أنّهم ينشرون دعوتهم في أرض مفتوحة ، من جهة ثانية. ولذلك ، سرعان ما غيّروا سياستهم في الحكم، وآثروا التخفّي وراء سدة حكم يقبلها الناس، لكنّها لن تحكم سوى بأمرههم. وفي هذه النقطة أستحضر تنبيهات الغنوشي منذ 2011 من قوله " لن تكون حكومة لا تشارك فيها النهضة".. إلى تحذير أنصاره في 2014 " أنّ النهضة غادرت الحكومة ولكنّها لن تغادر الحكم".
تلك هي قصّة الحكومات المتتالية علينا منذ 2011: ظللنا نعيش معها بين أخذ وردّ.. فغابت المشاريع، وطغت الانطباعية، وحرّك الخوف أصابع رؤساء الحكومات المتعاقبين ، خاصّة بعد 2013. وصارت علاقة الشعب بحكوماته متوتّرة، فانعدمت الثقة، وتحوّلت هذه الحكومات إلى رهينة في يد الإسلام السياسي، يمارس عليها أصنافا من المقايضات والتهديدات، فصار شغلها الوحيد البحث عن الطرق في إخفاء رأسها مثل النعامة.
لعلّ أسوأ مشهد هو ما نعيشه هذه الأيام مع الشاهد ووزرائه، فالقطيعة تكاد تكون صارخة بين هذه الحكومة والشعب، ولعلّ الأحداث التي نعيش زادت في تعميق القطيعة، ولم يبق مؤمن بمهارة هذه الحكومة سوى وزراؤها أو النواب الذين اصطفوا وراءها نتيجة تجاذبات وخصومات سياسية لا تعنينا، فانعكست على تسيير الدولة التي صارت تواجه سهام التدافع من كلّ جانب.
وبدل الوعي بخطورة ما بلغناها ماذا نرى؟ : كلّما اصطدمنا بمشكلة إلاّ وقام وزير أو وزيرة ليخاطبنا من "دار الضيافة" ولا أدري لماذا دار الضيافة بالذات؟ ويكيل لنا أفانين من التهم والسباب والشتم.. ثمّ ترسل حكومتنا الموقّرة أتباعها ليملؤوا القنوات بحضورهم ، أو يستأثر وزراؤها بالبلاطوهات لتلقين الناس دروسا في الوطنية والتضحية، وذوبان الذات في المجموعة.. وفي النهاية قد لا يجد أحدهم حرجا في رمي التهم على رؤوسنا لنظهر في الأخير كأنّنا نحن الشعب من أذنب.. في هذا الخضمّ من التجاذبات غابت صورة الشعب، شعب أنهكه القوت بعد أن اهترأ مرتّبه. وأرى من واجبي التنبيه إلى نقاط مصيرية ، عسى أن نقف عندها بالنظر والتحليل:
في الواقع تتميّز هذه الحكومة بخصلة لم نلحظ حضورها بكثافة في غيرها من الحكومات السابقة لها ، فهي حكومة أمسكت الإعلام من عنقه وأحكمت وثاقه في لباقة ، ووفقت في أن أعادته إلى بيت الطاعة بعد أن ألبسته أنواعا مختلفة من الأقنعة .. حتى لا يحدث تصادم بينه وبين الناس، لأنّ كلّ قطيعة معه دليل على القطيعة بين الحكومة والشعب .
وأوّل ما بدأت به هو توظيف وسائل الإعلام وتجنيدها لمغالطة العامّة، ولم يكن لها ذلك لو أبقت على الأصوات الحرّة التي يصدّقها الناس، لذلك كان لزاما إقصاؤهم من قنوات الإعلام وفتحها في وجه الموالين للأحزاب حتى تضمن هذه الحكومة طاعة المتحزّبين . فكان لها ما أرادت: مثل الحديث عن وضع القفة التونسية وفي الوقت نفسه الحديث عن معاناة الحكومة، وحرصها على محاربة الفساد، وبصفة أخصّ الوعد بأنّها حكومة تعمل لأجل غد أفضل. وفي الحقيقة لم يدّخر الوزراء جهدا في الإسهام بتحييد القضايا بل وتأليب الرأي العام على كلّ من تحدّثه نفسه لينقد أو يطالب بامتلاك الشارع من جديد. واكتشفنا.. ويا خيبة اكتشافاتنا : فالمحسوب على اليسار صار يغازل من كان يعتبره في الماضي القريب رجعيا وسببا في محنة تونس، وكم أثار الرأي العام عليه.. بل ذاب مفهوم المعارضة أصلا ، وصرنا كمن يعيش في مدينة افلاطونية فاضلة .. كم يسهل فيها الانتقال من رأي إلى آخر، وكُسّرتْ الحواجز واجتمعت الحكومة مع مؤتلفين من النائبات والنواب ليبشّروا هذ الشعب الجائع العطشان بأنّهم منتصرون .. قادمون.. وللشعب كاسحون..
وفي الأيام الفارطة اقتحم بيوتنا حوار بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يمكن أن نسمّيه : مشاكسة أو تلاسن، ولكن حذار عن أيّ تلاسن نتحدّث، هو حديث أفضل ما يشبّه به " بحديث السقايف".. لا أنكر أنّني كرهت نفسي وأنا أستمع إليهما، بل احتقرتها وبلغ بي القرف درجة الرغبة في التقيؤ: إذ ما كان لرئاسة الجمهورية أن تنقل لنا هذا الحوار، رأفة بنا وبهيبة الدولة.. وإن كنتما سي الباجي وسي الشاهد على خلاف وخصام فلتحتفظا بحواشيه لنفسيكما.. كفانا ما نواجهه كلّ يوم من ضغوطات..كفانا ما نعانيه في كلّ لحظة من يأس يتسرّب قطرة قطرة إلى عروقنا وأعيننا وآذاننا.. اليوم صرنا نشاهد صورا من التراشق بالألفاظ بين شخصيتين من أعلى قمّة في البلاد: رئيس يعاتب في مراوغة محبوكة رئيس الحكومة لتهاونه بوضع البلاد الأمني في تأجيله لعقد اجتماع طارئ .. ورئيس حكومة يتعامل مع رئيس الجمهورية باعتباره شخصا من الشعب البسيط يسعى إلى مقابلة مسؤول عادي لحلّ مسألة إدارية عادية.. ويحذّره بوجوب طلب موعد قبل أسبوعين...؟؟؟ ما هذا الذي أرى؟ وما هذا الذي أسمع؟؟؟ هل يُحمل هذا الحوار على العفوية؟؟ بئس العفوية هي.. هل يسعى كلّ طرف إلى نقل الاختلاف إلينا؟ للأسف، نحن عزّل ممّا يدور بينكما، وتكفينا السهام التي رشقت في جسمنا.. تحدّثا حديثا وددت لم أسمعه، لأنّه كلام يسهم في إخراج رؤوس الأفاعي من تحت الأحجار، حديث يبحث عن شمّاعة يرمي عليها كلّ واحد أحماله. بينما كنّا ننتظر حديث مسؤول يقدّر ما يمرّ به الشعب من أزمات اقتصادية تزيد في ثقل المشاكل التي يرزح تحتها. انتظرنا حديثا يتنكّر للشعبوية، حديث العارف بما يدفع الناس إلى الانتفاضة. لأنّه من المفروض أن يكون المسؤول عارفا بالتاريخ، وخاصّة باللحظات التي تجعل من التونسي مشروع ثورة.
وفي الأثناء.. تواصل النهضة مطمئنّة في الحفر في أفكار الناس الطيّبين.. أفكار من يرى العقيدة في معادلة بسيطة جدّا.. تواصل مشروعها راضية مرضيّة لا سحب تكدّر صفوها.. ولا كابح يعرقل مسارها.. لأنّ خيوط اللعبة أحكمت شدّها ، وكان لها ذلك منذ أن احتضنت الداخلية والعدل..كان لها ذلك منذ أن استعادت نشاطها بإثقال الإدارة بمريديها الذين انقطعوا عنها سنوات وسنوات، وعندما عادوا إليها كانوا أجهل ما يمكن عن دواليب الإدارة.. عادوا بامتيازات لم يحصل عليها الموظّف العادي الذي خضع في ارتقائه إلى سلّم آلي.. وتحوّل النضال عند الكثيرين إلى تجارة رابحة.. عادوا إليها دون شروط وبتزكية من الحكومة التي أسسها حزب " توهمّنا" أنّه المنتصر، وأنّه سيحمينا من نار التطرّف والغلوّ.. وكلّ ذلك تمّ على حساب تدمير الدولة. لأنّ في تدميرها إعادة بناء بالتصوّر الذي توارثوه من جدّهم الزعيم.. فكان للغنوشي أن " يضرب العروسة بيد القطوسة" ، ومن "لحية الحكومة فتللنا شكال".
والنتيجة .. سيناريو وحيد هو الطاغي على حياتنا السياسية ليلة سقوط تونس: الطامع اللاهث يشتري نظرة رضا من الغنوشي.. والحزب الجشع إلى مكانة حتى وإن كانت " قميئة" في أطراف الحكومة يسعى جاهدا حتى يستقطب التفاتة من بعض قياداتها.. و عندما أدرك النواب والنائبات أن الوقت يسير حثيثا نحو الانتخابات صاروا يستجدونها علّها ترضى لهم بمكان بعد 2019.. وستأتينا الأيام بما لم نزوّد.. كونوا هادئين إذا بلغكم أنّ هذا المترشّح من اليسار أو ذاك استغاث بالنهضة علّها تقرضه صوتا أو صوتين من نوابها حتى يكتمل نصابه للتقدّم إلى الرئاسية.. ولا تحزنوا إن سمعتم من أحد النواب دفاعا عن النهضة واستنكارا لشيطنتها.. فذاك هو قدرك يا شعبي..
إخوان تونس، لا يبحثون في الحقيقة سوى عن مظلّة يتّقون بها سهام الشكّ في صحّة ما ينادون به. ولكنّهم في الأصل لم يفارقوا البتّة مبادئهم، والظروف، بهذه الكيفية، بانشقاقنا وبحثنا عن ائتلافات موهومة متاهة لهم أكثر من ذي قبل حتى يعيدوننا ، بالعصا، إلى الخيمة أذلاّء صاغرين. فواصلوا في عنجهيتكم.. وفي خطابات الغرور والصلف لأنّ في ذلك تسريع لمصير مظلم ومجهول النتائج...
وتلك هي الغمامة التي تكتم أنفاسنا..
تعليقك
Commentaires