أتحدّى
أتحدّى الأحزاب التي ارتمت والهلع يأكل عظامها بين يدي الشيخ طمعا في إنقاذها من الزوال.. أحزاب يكاد المرء يوقن أنّها ليست سوى دمى تلهّى الغنوشي بصنعها أو الإيحاء بصنعها حتى يكتمل المشهد المسرحي الذي تعهّد بإنتاجه تحت راية الديمقراطية.. أحزاب يعجز المرء اليوم أن يميّز اليميني منها من اليساري ومن الوسطي..نبتت في أرضنا القاحلة سياسيا مثل الطحالب، فإذا بها طحالب لا تخصب ولا تنمو، وإذا بها طحالب لم تنبت سوى تحت جذع تنظيم الشيخ..أتحدّى هذه الأحزاب اليوم أن ترفع رأسها وتصرخ مطالبة بإيقاف نزيف تونس.. أتحدّى أيّ "زعيم "منها أن ينطلق لسناه بحديث النقد الذاتي ويعتذر لمن انتخب نوّابه طمعا في غد ديمقراطي .. غد آمن.. وغد ضامن لعيش كريم..
أحزابنا يا سادتي أصيبت بمرض " البهتة" عافاكم الله.. وهو أشبه " بالصعقة".. مرض يسجن الفكر ويلجم الأفواه فإذا بالطاعة غريزة.. وإذا بالذلّ قدر.. في الحقيقة لم يجد "صاحب الطابع" عناء في ترويضهم لأنّ مطامحهم بسيطة جدّا وعجينتهم طيّعة يسهل عركها وتطويعها بحسب الصورة التي يراها هو مناسبة.. وفي الحقيقة لم يدرك الشعب طينة هذه الأحزاب في التجارب الانتخابية السابقة، لأنّ عملية تطويع الغنوشي لهذه الأحزاب كانت ، تقريبا، من وراء حجاب: يأمر وينهى ويغضب ويُستَرضَى.. وجميع ذلك يتمّ برفع خنصر لا غير.. أو بفتات يرميه لهذا أو ذاك..وجميع ذلك تصحبه ألحان حقوق الإنسان، وكم هو شغوف بهذه السيمفونية ! وذمّ الديكتاتورية ، وكم استثمر الفكرة! والتعايش، وكم سوّق ذلك في الساحات الدولية! والتغنّي بالتوافق، وكم من باب فتحه بهذا المفتاح وأدخل جماعته زرافات ووحدانا! لكن غفل هؤلاء جميعا أنّ الرأس المال الذي وجدوه منذ 2010 تآكل.. وأنّ البذخ في الحكم مُكلفٌ! فمن أين لتونس أن تتكفّل بحاكمين: رئيس صوري مستلقي في قصر قرطاج مثل الأميرة النائمة التي تنتظر قبلة الحياة، وآخر فعلي تجده يتحرّك في كلّ مكان ، ويجوب البلاد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.. وقد أرسل أنظاره فانتشروا بين الناس ودخلوا المؤسسات واطّلعوا على أسرار الدولة وتمكنوا من دواليبها ليصير إليهم التحكّم في الماء والهواء الذي نتنفّس.. فإذا بهذه الأحزاب ومن يمثّلها في قبّة المجلس بيادق يحرّكهم صاحب الطابع كما شاء وكما أراد.. وإذا بمشيئة صاحب الأمر طاعة ، ويملي ، إشارة وصراحة، على الجميع سير أعمال المجلس، وإن خالف أحدهم الأمر فهو من الزائغين والهالكين.. ولعلّ أقرب مثال، ما حدث الثلاثاء الماضي عندما طلب رئيس كتلة النهضة ، في شكل أمر ودون استشارة بقية النواب، قراءة الفاتحة على مرسي، فيكتمل المشهد بسرعة التلبية ليقف رئيس المجلس قارئا للفاتحة.. ما حدث ذلك اليوم يختزل سياسة النهضة مع الأحزاب مثلما يختزل مفهوم السمع والطاعة عند هذه الأحزاب.. ولعلّ مداخلة أحدهم يومها كانت تحمل جميع عناصر الانشقاق، إن لم أقل العصيان، فاضطراب مقياس حرارة الطاعة لأنّ نقده كان أقرب منه إلى كسر العصا ونكرانا للجميل..
كلمة أقولها مختصرة: أتحدّى هذه الأحزاب أن ترفع حاجبها بحضور المُلّة، فليس بالغريب أو المستبعد أن يكون قد أعدّ لكلّ حزب منها ملفّا خاصّا يكفل له بأن يقول لها: كوني فتكون.. أو انقرضي فتنقرض..
أتحدّى يوسف الشاهد، وهو رئيس الحكومة بجميع الصلاحيات التي تجعل منه حاكما، و لا أعتقد أنّه جاهل بأنّه هو من يتحمّل مسؤولية ما بلغناه من فقر، ومن تشتّت.. وهو من يتحمّل مسؤولية توقّف المؤسسات عن عملها، وما نغطيوش الشمس بالغربال إذا عرّجنا على ملفّ التعليم العالي، لنقول إنّ الجامعات عاشت أسوأ حالاتها في عهده: فلا تكوين، ولا بحث علمي، ولا عمل منظّم.. والطلبة والأساتذة يعملون في تخاذل وانهزامية.. فأين الجامعة اليوم ممّا كانت عليه في الثمانينات أو التسعينات؟ لا شيء سوى الخراب وغراب البين ينعق في قاعات الدرس.. وطبعا الشعب لا يعلم، يعيش حالة غيبوبة وهو يتوهّم أنّ أبناءه ينهلون من العلم نهلا.. نكون من الكاذبين على أنفسنا إذا التفتنا إلى ملفّ وزارة التربية: فصحيح انّ أزمة الأساتذة عولجت ولكن، هل صحيح أنّ قطار التدريس عاد سريعا ومنتظما بعد انفراج الأزمة؟ كيف للمربي ، ومهما كانت قدراته أن يتدارك الوقت الضائع ويعيد نفسية التلميذ إلى التركيز بعد انقطاع وتوتّر؟؟!!! الله ورسوله أعلم.. هل سيقدر الشاهد في يوم قادم على الدفاع عن نفسه وتبرئتها من تهمة التواطؤ وحماية النهضة من ملفّات الفساد السياسي والاقتصادي المتعلّقة بها؟ هو يوم لا ريب فيه، لأنّ التاريخ يسجّل ولا يسقط شيئا، ومن السذاجة إن توهّم واهم أنّ المستقبل كفيل بالنسيان.. ومن السذاجة اعتقد معتقد أنّ النهضة ستحميه آنذاك، لأنّه سيكون يوما " يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه" . ومهما بلغ بالنهضة الحرص و ضمنت لنفسها قاعدة لها من القدرة على إخفاء الملفّات أو اتلافها فإنّ ملفّات التهم تستند إلى وثائق محفوظة إمّا في تقارير دائرة المحاسبات أوفي ملفّات الدفاع عن الشهيدين..
أتحدّى الشاهد أن يجد تبريرا واحدا يقنعنا بسبب البقاء على صمته ، ولا يتخذنّ السيدة مريم أسوة عندما أتت بشيء فريا، فأنذرت أن تصوم عن الكلام وأشارت إلى عيسى وهو في المهد صبيا ليدافع عنها.. فهذا المثال من معجزات النبوّة ، وما قام به الشاهد هو من فعل الإنسان ولن يجد الغنوشي ليدافع عنه..
وأتحدّى الشاهد اليوم أن يقف معلنا عن تدارك أخطائه ليعلن عن عزمه على فتح ملفّات عالقة ، لأنها وببساطة ملفّات يعتبرها ضميره من قبيل المحظورات التي " أباحت الضرورات" . أتحدّى ابن المدرسة" الحداثية" التي ناضلت لأجل العقلانية أن يخرج عن طاعة الشيخ.. بل كيف سيكون ذلك؟ وهو من حماه وضمن له الكرسي؟؟؟ حتى وإن كان هذا الكرسي بساق واحدة، فما هو إلاّ كرسي.. وحتى وإن كان شبيها بكرسي المُقعَد.. فما هو إلاّ كرسي، استطاع أن يستحوذ عليه عندما عجز غيره عن الفرار به.. وكما قال أجدادنا" مرقتو ولا فرقتو"..
وأخيرا أتحدّى رئيس الجمهورية أن يصحّح المسار، وأن يكفّر عمّا قام به في التاريخ القريب.. وأتحدّى من طمع في أن يكون الباجي قادرا على إيقاف نزيف تونس.. حتى وإن كان يملك أوراقا كثيرة.. وأخشى أن يكون السرطان قد استفحل في جسمنا الاقتصادي والاجتماعي وانتشر بكيفية تجعلنا في حالة موت سريريّ.. الباجي يا سادتي استقال في صمت.. وانسحب واتخذ من القصر مكانا قصيّا.. وشخصيا أجهل لماذا ترك الحبل على الغارب.. ينظر إلى صاحب الطابع يصول في جسد تونس ولا ينطق.. ويتابع تهاوي مؤسسات الدولة ولا يتحرّك..
كفانا تعليق مشاكلنا على شمّاعات غيرنا.. وكفانا الرضى والقناعة المحبطة بالفرجوية.. تحوّلت نضالاتنا إلى ساحات الفايسبوك بينما للنضال ساحات أخرى.. واكتفينا بالتعليقات ورضينا بالسخرية التي لا تزيد وضعنا سوى تعقيدا..
أخيرا أتحدّى من يذهب في تحليله إلى أنّ المُلّة ذاهب إلى تأجيل الانتخابات، وذلك لما ترسّخ في اعتقاده أنّه قام بضربة معلّم عندما أمر النوّاب بتنقيح القانون الانتخابي.. اللهمّ أن تعترضه مواجهات أخرى: كأن يجتهد من أُقصوا من الانتخابات في القوانين المقترحة، لأنّها فعلا قوانين ساذجة وعامّة، ومفتوحة لجميع التأويلات.. وكأنّنا بمن صاغها متعلّم في مدارج القانون الأولى.. وعلى كلّ، فلا شيء يبعث الشيخ على الخوف.. فالقوم نيام يغطّون في النوم وإذا تحرّك أحدهم فليتقلّب إلى الجانب الآخر أو... لينبّه رفيقه في النوم بالابتعاد قليلا.
تعليقك
Commentaires