أزمة عتبة أم أزمة رؤى للمسألة الديمقراطية برمتها؟
طفت ازمة جديدة هذا الأسبوع تحت قبة البرلمان تتعلق هذه المرة بتعديل القانون الانتخابي وتحديدا بما بات يعرف بأزمة العتبة. وتبرز هذه الازمة مرة اخرى ان الاحزاب السياسية الوطنية منبتة عن واقعها أيما انبتات. اذ أن هذا الموضوع مثار الجدل بين نواب الشعب لا يحظى بأدنى اهتمام لدى فئة واسعة من هذا الشعب الذي ترهقه في اللحظة الراهنة ملفات وقرارات أكثر ارتباطا بتفاصيل حياته اليومية.
و اذ نشير الى هذه الفجوة بين صراعات أصحاب السياسة وهواجس المواطنين فان ذلك لا يعني البتة أن موضوع تعديل القانون الانتخابي وإدخال تغييرات على طريقة احتساب الأصوات وإقرار نظام العتبة ليس أمرا هاما يستحق التوقف عنده. إلا أن توقيت طرح هذا الملف الخلافي وطريقة طرحه هما اللذان يجعلانه مدعاة للفرقة في وقت تحتاج فيه البلاد الى توفير أسباب التقارب والوحدة لمواجهة الأخطار الاقتصادية والأمنية المحدقة بها.
وإقرار مبدأ العتبة وتحديد نسبتها ليس أمرا في غاية الأهمية في حد ذاته. فالعديد من الدول الديمقراطية تعتمد نظام العتبة في نسب متفاوتة دون ان يمس ذلك من جوهر نظامها الديمقراطي. وهناك أيضا من الدول غير الديمقراطية التي تستخدم نظام العتبة لتأبيد أنظمتها التسلطية. وفي المقابل فان أغلبية من دول العالم لا تقر مبدأ العتبة في قوانينها الانتخابية. وللحقيقة فان اقرار مبدأ العتبة أو استبعاده من القانون الانتخابي التونسي لن يؤثر جوهريا على نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة التي ستجرى قبل نهاية هذا العام وسوف تكون تركيبة المجلس النيابي المقبل قريبة جدا من التوازنات الحالية داخل مجلس نواب الشعب بما سيفرض نفس التحالفات أو التوافقات الحالية في أكثر الظن. وقد تم اعتماد مبدأ العتبة التي حددت بثلاث بالمائة للمرة الأولى خلال الانتخابات البلدية السابقة التي جرت في ماي الماضي فلم يكن لها تأثير يذكر على التوازنات السياسية المعروفة منذ انتخابات 2014 التشريعية.
لذلك فان السجال بين المساندين والمعارضين لمشروع تعديل القانون الانتخابي مرده بالأساس ازمة الثقة بين الفاعلين السياسيين من جهة وتوقيت تقديم مشروع القانون. فإصرار الحكومة على اضفاء الصبغة الاستعجالية على مشروع القانون ومساندة أحزاب الائتلاف الحاكم لها يعطى الانطباع بأن الهدف من التعديلات المقترحة هو تحجيم وزن المعارضة داخل المجلس النيابي المقبل وضمان سيطرة أكبر للأحزاب الكبرى على المشهد السياسي والنيابي وحتى على دواليب الدولة بما يسمح بتأبيد بقاءها في الحكم. كما أن توقيت تقديم مشروع تعديل للقانون الانتخابي قبل أشهر قليلة من اجراء الانتخابات يجعل منه بالضرورة موضوعا للسجال الانتخابي و يبعده بالضرورة أيضا عن الروية المستوجبة لمعالجة الملفات الهامة. و كان من الممكن أن يكون هذا السجال أقل حدة وأكثر عمقا لو تم تقديم مشروع تنقيح القانون الانتخابي خلال السنة الأولى من المدة النيابية الحالية فتتقبله مختلف الكتل بأكثر أريحية واقل توجسا.
بل أن تقديم مشروع تعديل القانون الانتخابي في متسع أكبر من الوقت كان بإمكانه طرح قضايا اكثر أهمية من اقرار مبدأ العتبة وتمس جوهر النظام الانتخابي نفسه وطريقة الاقتراع برمتها. وقد حان الوقت للنظر دون أفكار مسبقة في جدوى اعتماد نظام الاقتراع بالأغلبية على القائمات والتفكير في نظم أخرى لا سيما نظام الاقتراع على الأشخاص. كما يمكن التفكير في اعتماد نظام الاقتراع على دورتين الذي من شأنه أن يضمن عدم ضياع أصوات الناخبين.
والأكيد أن الأحزاب المتواجدة في البرلمان هي التي تقوم بصياغة القوانين وبالتالى فانه من الطبيعي ان تراعي مصالحها في ذلك. وهذا يحصل في كل الدول بما فيها الدول الأكثر رسوخا في الديمقراطية. لكن الأحزاب الحاكمة أو المهيمنة في هذه الدول تسعى دائما الى ضمان صوت الأقلية داخل أنظمتها يحدوها ايمان قوي بمبدأ التداول السلمي على السلطة وقناعة بأنها قد تجد نفسها لسبب أو آخر وتنفيذا لإرادة الناخبين في موقع المعارضة أو الأقلية بعد أن كانت في مواقع الحكم. ولو تسلحت الأحزاب السياسية الوطنية بهذه القناعة ولو حملت رؤية للديمقراطية أكثر اتساعا من دائرة مصالحها الفئوية والحزبية الضيقة لكان السجال الحالي حول العتبة أمرا غير ذي موضوع.
تعليقك
Commentaires