الحريات المنفلتة لا تنتج ديمقراطية
بقلم: سفيان بن حميدة
يتفق الجميع على ان الثورة التونسية لم تحقق كل أهدافها. بل ان الاجماع حاصل حول واقع ان الهدف الوحيد من أهدافها الذي وجد له طريقا للتجسيم هو الحريات الفردية والعامة. وللحقيقة فقد سمحت الثورة التونسية للمواطنين باسترجاع قيمة المواطنة لديهم واكتشفوا أن لهم أصوات قد تعلو وتفرض الانصات اليها فارتفعت عقيرتهم بالصياح الذي تحول الى غوغاء في بعض الاحيان. كما اكتشفوا أن الشارع ملك لهم فخرجوا اليه وافتكوه من الأمن اذي كان ينفرد به ويرابط فيه.
لكن حرية التعبير هذه شهدت انزلاقات خطيرة وأسفرت عن انحدار هام في مستوى الخطاب العام بما في ذلك الخطاب السياسي الذي عوض مقارعة الحجة بالحجة ومقابلة الرأى بالرأي بترسانة من السباب والشتيمة لا تليق بأسفل الصعاليك وأنذل المنحرفين. كما أسفرت حرية التعبير عن ممارسات هجينة مثل قطع الطرق والاعتصامات العشوائية أو أخطر من ذلك مثل الانتحار حرقا.
أما على مستوى الحريات العامة والسياسية، فلئن أصبح التونسيون يتمتعون بهامش واسع من المشاركة السياسية فان الانزلاقات والانحرافات كانت بدورها كثيرة، أثرت على مستوى المشاركة الشعبية في الحياة العامة وأسفرت عن عزوف كبيرلا سيما لدى الشباب عن الانخراط في العمل السياسي.
ولعل الكم الهائل من الاحزاب السياسية في البلاد لم يساعد على تركيز الحريات السياسية على أسس صلبة. ففي بلد لا يتعدى عدد سكانه الاحدى عشر مليون نسمة، يصعب القبول بوجود أكثر من مائتي تنظيم سياسي.
وحتى ان كانت التجربة التعددية في بدايتها وتحتاج الى وقت للغربلة والاستقرار. وحتى ان كانت حرية التنظم مكفولة دستوريا ولا يجب المساس بها بأي ذريعة كانت فان التخمة الكبيرة من الأحزاب السياسية لم تساعد على خلق مناخ سياسي سليم. بل بالعكس من ذلك فقد كانت سببا في تغذية النزعات النرجسية والزعاماتية لدى فئة من السياسيين تعوزهم اكفاءة والخبرة والتواضع. وقد يبدو المشهد السياسي متحركا متلاطما لكنه مجرد زبد ناتج عن خلط محموم لنفس الأوراق دون أن نشهد لذلك تأثير حقيقي في الواقع أو انفتاح على فئات جديدة أو استنباط لرؤى مبتكرة.
كما أن المشهد النقابي يعرف غليانا أصبح ينذر بالخطر. فاستفحال الأزمة في قطاع التعليم الثانوي بين الأساتذة ووزارة التربية أصبح يهدد العام الدراسي. وهى أزمة ليست جديدة بل أن نيرانها تستعر منذ السنة الماضية دون أن يحاول طرف من أطرافها الابتعاد عن متاريسه وتقديم التنازلات الضرورية لإخمادها.
في ذات الوقت، تتوجه البلاد الي اضراب عام ثالث في القطاع العام بعد انسداد أفق التفاوض بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة حول الزيادة في أجور الموظفين.
ودون المس من الحق النقابي وهو حق مكفول بمقتضى الدستور وأيضا بمقتضى المعاهدات والاتفاقيات الدولية فان ما تشهده هذه الاضرابات من انزلاقات وما تنذر به من أخطار يجعلنا نخشى على البلاد التي قد تدخل لسبب من الاسباب وفي أي لحظة في دوامة المواجهة والعنف.
ولا يستبعد أن يكون التلكؤ الواضح للحكومة في الانخراط الجدي في المفاوضة الجماعية والمساهمة الفعالة في ايجاد الحلول للأزمات الاجتماعية الخانقة مرده الرغبة في مزيد تسميم الأجواء والوصول بها الى مرحلة الانفلات التي تبرر استعمال القوة والتراجع عن احترام الحريات العامة والفردية وبالتالى العودة الى مربع الدولة المتسلطة التي تفرض الأمن ليس عبر الحوكمة الرشيدة واحترام عقد اجتماعي يقوم على المشاركة والتشاور والتفاوض بل عبر الاستعمال المفرط للعنف مستغلة في ذلك ارتفاع منسوب القلق لدى فئة من التونسيين لم تجد ما يطمئنها على مستقبلها ومستقبل عائلاتها.
ولعله حان الوقت حتى يتفطن الفاعلون في المشهد السياسي والاجتماعي الى أن الانزلاق الذي تشهده البلاد اليوم لا يخدم مصلحة أي طرف بل يزيد من اضعاف قدرة البلاد على مواجهة الصعوبات التي تمر بها. الا أن الوضوح في تحليل الأوضاع والشجاعة في تغيير السلوكيات ليست أمرا هينا في سنة انتخابية اشتدت المنافسة فيها حتى قبل تحديد موعد الاقتراع وانطلاق الحملة الانتخابية.
تعليقك
Commentaires