العناصر الأربعة التي شكّلت أزمة اليسار في تونس
أصبحت أزمة الجبهة الشعبية موضوع نقاش عمومي ولم يعد خفيا حالة الانقسام والاصطفاف داخلها بسبب الصراع بين حزب العمال والوطد.
الأزمة كشفت أربع حقائق مرتبطة بمسارات اتحاد اليسار تاريخيا، وهي غياب الزعيم القادر على توحيد المختلفين وثانيا غياب المقاربة التنظيمية في اطار العمل الجبهوي وثالثا ضعف الأطروحات السياسية واعتماد منهجيات تلفيقية في التعاطي مع المتغير السياسي ورابعا المعطى التاريخي القائم على مراكمة صراعات بين حزب العمال والوطد منذ 1989 تاريخ المؤتمر التاسع عشر للاتحاد العام لطلبة تونس حيث يتهم الوطد حزب العمال بالانقلاب على المنظمة.
النقطة الأولى متعلقة بالزعامة، اذ انه رغم أن جل اليساريين يؤمنون بأن ادارة الذات السياسية تتم جماعيا من خلال قيادة مركزية مرتبطة بمناضلي الجهات والأقاليم، ولكن في مستوى الممارسة فإنهم يتمثلون صورة الزعيم الواحد القادر على فعل كل شيء وعلى القيام بالمهام الثورية، وتترسخ لدى جلهم صورة جوزيف ستالين أو ليف دافيدوفيتش برونشتاين المعروف باسم ليون تروتسكي، ويعتبر اهم زعماء اليسار في تونس مثل محمد النافع وجورج عدة ومحمد حرمل وصالح الزغيدي، برزوا عن الحزب الشيوعي أو محمد الشرفي وأحمد السماوي والطاهر شقروش… عن حركة آفاق برسبكتيف وَعَبَد الرؤوف العيادي وحمة الهمامي والصادق بن مهني عن العامل التونسي ثم حمة الهمامي لاحقا عن حزب العمال، ثم خالد الفالح والعربي عزوز وعبد الرؤوف الفقير ثم عن احمد الكحلاوي وَعَبَد الرزاق الهمامي قبل أن يتم تأسيس التيار الوطني الديمقراطي (الوطنيون الديمقراطيون بشتى فصائلهم) وظهرت أسماء مثل محمد جمور وبختة جمور ومحمد الهادفي، ثم في الثمانينات برز الزعيم شكري بلعيد.
في فترة التسعينات الى فترة الثورة كان زعيمان لليسار التونسي وهما شكري بلعيد وحمة الهمامي ويعود ذلك الى التنافس بين الوطد وحزب العمال، وقد مثل المؤتمر التاسع عشر للاتحاد العام لطلبة تونس سنة 1989 منعرجا في تاريخ العلاقة بين الطرفين وتواصلت المعارك بينهما وتوارثتها أجيال رغم عدم وجود نصوص فكرية وأيديولوجية تبين طبيعة الاختلاف بين الطرفين، بل إن المدوّنة اليسارية التونسية تكاد تمون خالية من آي انتاج فكري ويمكن القول إن المكتبة اليسارية التونسية تقريبا هي المكتبة العربية اليسارية الوحيدة الخاوية، اذ لم تترك غير انتقال بعض الشعارات الكبرى والروايات الدعائية الشفوية.
لم يستطع زعماء اليسار في تونس منذ الخمسينات الى اليوم إنجاز المهمة الأساسية المطروحة عليهم وهي المهمة التنظيمية بمعنى حزب يساري قادر على التعبئة الشعبية والوصول الى السلطة، وهو هدف يمكن اعتباره استراتيجي، ولكن عجزت كل قيادات اليسار عن مهام أقل من ذلك بكثير مثل المحافظة على الوحدة التنظيمية لأحزابهم الصغيرة وحتى عجزوا عن تجميع الحد الأدنى من رفاقهم.
كان اغتيال شكري بلعيد حدثا فارقا في تاريخ اليسار التونسي وقد مثل في لحظة تاريخية ما نقطة توحيد بين اليساريين، الا أن الزعيم المتبقي بعد بلعيد حمة الهمامي عجز حتى عن تجميع الفرقاء من الطلبة داخل الاتحاد العام لطلبة تونس وأكثر من ذلك عجز عن أن يكون زعيما داخل الجبهة الشعبية لا غير، اذ تفككت وتفتت امام عناده الحزبي الضيق.
كان يمكن لحمة الهمامي ان يترفع عن ممارسات رفاقه المغامراتية والمتمردة وأن يأخذ بأياديهم، ولكنه دفع الصراع الى اقصاه متمسكا بسكتارية لا تليق بشخص بحجمه التاريخي والنضالي.
يمكننا أن نعتبر أن زعامات اليسار لم تكن في مستوى الرهان التاريخي الذي طرح عليها.
أما بالنسبة الى المسألة الثانية فهي متعلقة بغياب المقاربة التنظيمية، اذ أن الأحزاب والحركات اليسارية سواء منها الستالينية او غير الستالينية لم تدرك المسار التنظيمي الذي يستجيب للمرحلة، اذ اختار حزب العمال ان يتبنى تصور بناء حزب البروليتاريا في حين يرى الوطد انه بصدد بناء كادر الثورة لذلك كان يتنظم في شكل حركة وليس حزبا.
كان اليساريون يختلفون حول طبيعة المجتمع وطبيعة النظام، وعند الاختلاف حول ذلك فانهم بالضرورة يختلفون حول طبيعة الثورة.
ان إنجاز الثورة يقتضي اداة ثورية أي الهيكل التنظيمي بين ان ينجز المهمة حزب الطبقة العاملة أو جبهة وطنية ديمقراطية.
اذن نحن ازاء اختلافات في التكتيك وفي الأهداف وفي زاوية النظر للثورة وللسلطة القائمة وللنظام عموما، وبالتالي فانه من المنطقي اذا اختلفت الأهداف أن تختلف الوسائل.
ان تلك الاختلافات قابلتها غياب الإرادة السياسية لدى زعماء وقيادات اليسار لتقريب وجهات النظر وعوض البحث عن نقاط التقاطع والاقتراب فان اجيالا من اليساريين ابدعت في البحث عن نقاط الاختلاف ومواطن الصراع، حتى بلغ الامر الى تخوين بعضهم البعض واتهام كل طرف منهم الطرف الاخر بالتعامل مع السلطة وبالتخلي عن القيم والمبادئ اليسارية، الأول يتهم الثاني بالتحريفية والانتهازية والأخر يتهمه بالإصلاحية وخيانة الطبقة العاملة.
ان القراءات لفهم طبيعة النظام وطبيعة المجتمع وبالتالي الاختلاف في طبيعة الثورة والتنظيم الملائم تاريخيا لانجاز المهام، لم تكن في مجملها مستندة الى فهم حقيقي ودقيق للواقع التونسي المتغيّر، فالتصور الالباني ومقاربة أنور خوجة كان لها تأثير على قراءات حزب العمال في حين كانت التصورات والقراءات الماوية في الصين لها تأثير في قراءات الوطد، بل كانت هناك العديد من النصوص السياسية والفكرية مستوحاة من كتابات مهدي عامل حول المجتمع اللبناني وحول طبيعة التناقضات الطبقية.
عندما نبحث ضمن المدوّنة السياسية لليسار الماركسي اللينيني في تونس فاننا لا نجد اثار مكتوبة يمكن ذكرها مثلما هو الشأن مثلا للحزب الشيوعي العراقي (الكادر) أو الحزب الشيوعي السوداني او اللبناني...
المشكل ان اليسار التونسي نشأ وترعرع في ثقافة الشفوي ونقل الروايات الدعائية والدعائية المضادة وظلت أجيال ترفع شعارات كبرى دون ان تعي تجسيداتها الأدبية السياسية، لذلك كانت مرجعياتهم الفكرية، تعتمد منهجيات تلفيقية، رغم ادعائها بتبني الماركسية اللينينية في حين لا اثر لقراءات لليسار التونسي لتلك المقاربات الفكرية والسياسية بل ظل يسارا استهلاكيا لا غير.
إن عجز القيادات والزعامات اليسارية عن تقديم الأجوبة المناسبة للأسئلة والاشكاليات التاريخية التي يطرحها الواقع التونسي بخصوصياته الثقافية والاجتماعية، جعلت تصوراتهم التنظيمية تكون بدورها عاجزة عن طرح الأسئلة الحقيقية المتعلّقة بالأداة الثورية القادرة على انجاز المهام التاريخية، وقد زاد العمق التاريخي للصراع حول التفاصيل من المزيد من تشتيت اليسار وتهميشه وجعله غير قادر على الفعل السياسي رغم حجم المدوّنة النظرية الخام ورغم جدم المناضلين وقدراتهم على التقديم والتضحية.
إنّ عمق الصراع التاريخي يمكن ارجاعه بوضوح الى الاختلافات التي قامت بين حزب العمال والوطد حول اللوائح والتمثيلية في المؤتمر التاسع عشر للاتحاد العام لطلبة تونس سنة 1989 عندما انسحب الوطنيون الديمقراطيون من المؤتمر واتهموا حزب العمال بالانقلاب على المنظمة.
منذ ذلك التاريخ سيطر حزب العمال على المنظمة الطلابية في حين اتجه الوطد نحو الاتحاد العام التونسي للشغل وخاصة نقابات التعليم في فترة تاريخية معنية، وقد كانت الصراعات على اشدها في انتخابات المكاتب الفيدرالية وفي انتخابات النقابات الأساسية والعامة وكانت الحملات والحملات المضادة يقودها هذا الطرف ويردّها عليه الطرف الآخر، وظلّ جرح الاختلاف حول المؤتمر التاسع عشر يتراكم عبر السنوات وألقى بظلاله على بقية القطاعات والنقابات في البلاد، حتى تحوّلت الاختلافات الى صراعات رسختها قيادات يسارية عجزت عن إيجاد الوصفة الحقيقية لتجاوز أزمة اليسار التونسي.
تعليقك
Commentaires