اللوبيات تغرس أضراسها في المترشّحين
لسائل أن يسأل وهل اختلف شيء عن 2014؟ بالطبع لا، نفس الوجوه، ونفس الخطاب، ونفس النرجسية والشراسة والعنف..
تعيش تونس هذه الأيام حالا من النشر: صراخ وتجاذب وكلّ يندب ليلاه.. ربّما صارت الأمور الى التعقيد، فإن عشنا في 2014 احتكارا طاغيا لرغبة في إنقاذ المجتمع من الإسلاميين هانحن اليوم نعيش ارتهانا لأفكار الناس ومحاصرة لكلّ رغبة في التفكير أو النقد.. ويبدو أنّ المرشّحين للرئاسية قد شغفوا بما يصير في أوربا أو أمريكا من حركة سياسية واجتماعية .. فساروا على مناهجهم ونظّموا المواكب الاحتفالية لمرافقة المرشّحين إلى الإيزي . لكن يبدو أنّ الأمور توقفت عند هذه المسألة، فقد بقينا ننتظر اجتماعات شعبية لتسويق البرامج الانتخابية ، وتطلّعنا إلى نقاش قد يسهم في بناء فكرة عند الناخب.. فكرة تبعث فينا الاطمئنان إلى أنّ مستقبلنا أفضل من حاضرنا وماضينا.. لكن ما كلّ ما يشتهي المرء يدركه.. يبدو أنّنا دخلنا دهليزا أظلم ويشقّ ظلمته صراخات ناشزة تحاصر الأذهان والأعين.
بحثت عن بريق من الأمل في وسط هذه الحمّى فإذا بالجميع يهذي، وإذا بالأنصار يُوَلْوِلون ويحذّرون كلّ نفس تتوق إلى الكلام.. وإذا بالمواقع الاجتماعية تشتعل نارا.. وتساءلت: أين مشاكلنا من كلّ هذا؟ وهل من متفطّن إلى تونس وهي تئنّ تحت ركام من القضايا الخانقة؟؟ هل من مدرك للخطر المحدق بنا، بعد أن تشتّتت الأذهان ونطق كلّ لسان بمكروه الكلام؟
نظرت إلى المرشّحين علّيَ أظفر بصوت يجمع الحائرين ، فإذا بي أصدم بتكتّلات إيديولوجية ، هي في الظاهر مستقلّة ، لكنّها أصناف وطوائف: فيها الفئة التي يجمعها إيمان بوجوب التغيير وبتحويل المجتمع إلى رعية طائعة تنضوي تحت خيمة واحدة هي خيمة الخلافة.. ولا ضير إن كانت هذه الخيمة سلفية أو إخوانية أو خيمة وهابية أو من أنصار الشريعة بما أنّ اليد التي تحرّكهم واحدة والفكر الآمر واحد.
ومن المرشّحين فئة أعجبها التغنّي " بالوسطية" واعتبرته ظلاّ تحتمي به من نار التغيير ، لأنّها وببساطة عاجزة عن الاتيان بالجديد، ولأنّها ما تزال سجينة تحالفات أرساها السبسي منذ 2014، فئة تعتبر أنّ الخروج عن الوسطية كفر وانبتات.. ولعلّ الظروف حالفتها بوفاة الباجي وحزن الناس عليه فاعتقدت أنّ هذا الحزن هو لا محالة كفيل بأن يخفي الزلاّت التي كان قد وقع فيها وأوقع من انتخبوه في هذه المطبّات.. ولا ننسى القطيعة التي ميزّت علاقة الباجي بناخبيه في هذه الأشهر الأخيرة والنقد الذي وجّه إليه.. عوّلت هذه الفئة على الذاكرة القصيرة لهذا الشعب وعقدت العزم على إعادة استمالته عسى أن تستعيد خزّانها الانتخابي، ولكنّ الأنفس التائقة إلى المناصب عملت على التفريق وانبرت أصوات كلّ واحد منها يدّعي أنّه الأفضل والأوفى لسياسة الباجي.
في هذا التيّار الحماسي انبثق اتجاه آخر اقتنص فرصة غيبوبة هؤلاء لينبّه إلى أنّه الأفضل واستدلّ على قوله ببرنامجه الذي اختصر الطريق وقصد المشاكل التي يبحث المجتمع عن متحدّث يتجرّأ على الحديث فيها، فأمكنه في وقت وجيز أن يجمع حوله كثيرا من الناس لأنّه قدر على الأخطبوط الذي يمسك الآخرين من رقابهم، وأعلن حربه على الإخوان.. وكنّا في هذه الظروف ننتظر موقفا سواء من الوسطيين الذين اكتووا بنار الإخوان أو من اليسار الذي رُزي في شهيدين ، وهو الأحقّ لأنّه يعتبر صاحب قضية.. لكن، والغريب الصمت هو الطاغي ، وإذا بالجميع يتحاشى المسألة كأنّما الحديث عنها كفر وزيغ.. وفي الأثناء تفرّق الناس عنهم شيئا فشيئا.. وانفضّوا عن مجالسهم..
ولم يبق في سقف الانتظار سوى مرشّح واحد، أعلن أنّه مستقلّ وغير متحزّب، وهما صفتان تبعثان في النفس الراحة والطمأنينة.. وانتظرنا حديثه الذي لم ينزل بلسما على قلوبنا: وهنا نقف عند مسألة نعتقد أنّها جوهرية في الحملات الانتخابية وتعتبر من الأولويات. ذلك أنّ التأكيد على الاستقلالية لا ينفي طبيعة المرشّح للرئاسة، لأنّه مرشّح لأعلى منصب سياسيّ وليس لوظيفة سامية من وظائف الدولة، ثمّ إنّ الإنسان قد يكون ماهرا في وظيفته ولكنّه ليس بسياسيّ.. وعندما نتحدّث عن مشمولات السياسي في منصب رئيس جمهورية محدود الصلاحيات فإنّنا نعي دقّة المسألة، إذ كيف يقنع مرشّح بهذه الشروط الناس بأنّه كفيل بالاهتداء إلى الطريق التي بها يبلّغ هواجس هذا المجتمع.. وخاصّة إذا كان مجتمعا مثل مجتمعنا عاش تجارب إيديولوجية معقّدة، وواجه نزوات عقائدية.. مجتمع اختطف منه أبناؤه ليرموا بهم في محارق سوريا وليبيا بدعوى الجهاد.. مجتمع يعيش أصنافا من المشاكل الاقتصادية وغلاء في المعيشة وبطالة أبنائه بعد سنوات من التضحيات لأجل تعليمهم.. مجتمع يرى بأمّ عينيه الفساد وقد اسشترى بين الناس، ولم يعد بالخفيّ.. مجتمع أكل الإرهاب من جسمه وفقد شهيدين في وقت قصير ولا رغبة سياسية في تتبّع القاتل.. مجتمع يصرخ عاليا باسم من يشكّ فيه وإذا بالسياسيين يخفون رؤوسهم ويصمّون آذانهم لصراخه.. هذا هو المجتمع التونسي اليوم. المجتمع الذي سيخرج يوم 15 سبتمبر ليصوّت ستكبّل أصابعه بهذه المشاكل.. ولذا ،فإذا تحدثّت هذا المجتمع القلق بحديث المطمئنّ المسالم والداعي إلى المصالحة فإنّه من الصعب أن يصغي إليك وقد يولي ظهره لجميع هؤلاء ويقرّر عقاب الجميع.. فحذار قبل فوات الأوان
تعليقك
Commentaires