المتملّقون والمداهنون يصوغون الدستور الجديد
يوم 9 ديسمبر 2021 كان يوما زاخرا بالأحداث والتي بدأت بقيام أحد الإسلاميين بإضرام النار في جسده، متسببا بذلك في وفاته وفي إصابة 18 شخصا من رفاقه .. فور الإعلان عن وفاته، سارع راشد الغنوشي إلى توظيف هذه الحادثة واستغلالها لفائدته من خلال التصريح بأن سامي هو شهيد آخر من شهداء النضال من أجل تحرير تونس من الظلم والدكتاتورية والفساد والتهميش وضحية أخرى من ضحايا الفقر والحملات الإعلامية التي استهدفت مناضلي النهضة حتى بعد مرور عشر سنوات على الثورة".
هل تريد منديلا لتمسح به دموعك سيدي الشيخ ؟ .. هؤلاء الإسلاميون، سواء كانوا متطرفين أو معتدلين، لا يهدرون أي فرصة للعب دور الضحية وإيجاد كبش فداء من بين خصومهم لتبرير مأساتهم .. فهم دائما أبرياء ومظلومون وغيرهم هم الأشرار.
مات سامي السيفي ميتة شنيعة، فهل علينا أن نبكيه رغم ذلك ؟ .. هذا الرجل قضّى عشرة أعوام في السجن وقد استحقّ هذا الحكم باعتبار أن حركة النهضة كلّفته بالقيام بعملية إرهابية أو عمل يجرّمه القانون وقد دفع ثمن فعلته.
كاذب من يقول إن بن علي زج بالإسلاميين في السجن .. نور الدين البحيري وعبد الفتاح مورو لم يدخلوا السجن رغم أنهم قياديون في هذا التنظيم.
من حُكم عليهم بالسجن اقترفوا أو حاولوا ارتكاب أعمال خطيرة ضد المواطنين وضد الدولة .. فهم لم يناضلوا أبدا من أجل الديمقراطية أو ضد الدكتاتورية .. لقد خططوا من أجل الدفاع عن إيديولوجيتهم وشريعتهم وحزبهم الإسلامي .. لذلك عليهم أن يدفعوا الثمن وقد دفعوا ذلك الثمن .. انتهى الموضوع.
بعد الثورة تم إيهامهم بأنهم مناضلون وضحايا آلة القمع التي كانت بيد النظام السابق وقد وعدوهم بأن يتم تعويضهم من مال دافعي الضرائب.
في مقدمة من وعدوا بالتعويضات لفائدة الإرهابيين والنشطاء الإسلاميين، هناك قياديون نهضاويون ورئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين .. في تلك الفترة كانت السلطة بين أيديهم وكانوا يعتقدون أنهم سيستغلون موارد الدولة لتعويض البسطاء والمرتزقة .. غير أن خزائن الدولة الفارغة أخّرت دفع التعويضات قبل أن تجهض قرارات 25 جويلية 2021 ما تبقى لهم من آمال.
فليغضبوا وليضرموا النار في أجسادهم وليلقوا بأنفسهم من فوق المباني الشاهقة، هذا الأمر لا يعنينا .. لكنهم لن ينالوا فلسا واحد من أموالنا .. ما عليهم إلا مطالبة ومحاسبة راشد الغنوشي وسهام بن سدرين.
وهذا ما فعله سامي السيفي .. لقد توجّه للمطالبة بحقه ممّن زكّاه ووعده بالتعويضات.
سامي السيفي لم يمت بسبب الحرب الإعلامية ضد مناضلي النهضة .. سامي السيفي مات لأنه اتخذ قرارات خاطئة في حياته .. لقد مات بسبب سذاجته بعد أن صدّق وعود راشد الغنوشي وسهام بن سدرين .. لم ينعم بالعيش الكريم لأن حياته اقتصرت على الدفاع عن إيديولوجيا إسلامية دموية .. ليست الدولة التونسية ولا وسائل الإعلام هي المتسببة في موت سامي السيفي .. إنهم الإسلاميون وبن سدرين من تسببوا في هلاكه.
لا تمس من دستوري !
الحدث الثاني الذي شهده يوم 9 ديسمبر 2021، اجتماع رئيس الجمهورية بخبراء القانون الدستوري، الصادق بلعيد ومحمد صالح بن عيسى وأمين محفوظ، أكد لهم خلاله أن دستور 2014 لم يعد شرعيا !
أي أن الدستور الذي صادق عليه، بعد معاناة ومكابدة كبيرتين، ما لا يقل عن 200 نائب، على إثر مداولات صاخبة دامت أكثر من عامين، صار غير شرعي ! أي أن الدستور الذي سمح لقيس سعيّد بأن يتم انتخابه، غير شرعي ! أي أن الدستور الذي أقسم عديد المرات بأنه سيحترمه، صار غير شرعي !
بالنسبة إلى المسيحيين فإن النص الأكثر قداسة هو الانجيل .. بالنسبة إلى المسلمين هو القرآن .. أما بالنسبة إلى المواطنين فهو الدستور .. هكذا تسير الأمور في البلدان الديمقراطية .. لكن حين يتعلّق الأمر بالدول النامية حتى لا نقول الدول المتخلّفة، فإن تغيير الدستور يصبح من أسهل الأمور.
إن قيس سعيّد، بتصريحاته تلك، لا يدير ظهره للثورة وللشعب التونسيين، بل هو بكل بساطة يضع بلادنا في مصاف الدول المتخلّفة.
صحيح أن دستورنا يعاني بعض الهنات ولا بد من تنقيحه .. وكان بإمكان قيس سعيّد تعديل نصوص الدستور ومراجعة ما يستحق منها المراجعة.
كما لا يختلف إثنان في أن دستورنا وراء الأزمة السياسية التي تعرفها البلاد منذ انتخابات 2019، ولكنه ليس وراء حالة العطالة والتعطيل التي تشهدها الإصلاحات الإقتصادية التي تحتاجها البلاد ولا هو المتسبب في التضخّم وضعف النمو أو في كل مشاكلنا الإجتماعية والثقافية.
قيس سعيّد يريد مراجعة الدستور لتغيير منظومة الحكم، بإعطاء الرئيس سلطات مطلقة، والحال أن هذه النقطة بالتحديد هي الأكثر أهمية في دستور 2014 الذي سحب النفوذ من رئيس الدولة وجعلها متقاسمة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والبرلمان.
كما نص هذا الدستور على إحداث هيئات مستقلة عن هذه السلط الثلاث، لمزيد تقوية الدولة، على غرار هيئة الإنتخابات وهيئة السمعي والبصري والمجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية.
لكن لا يختلف شخصان في كون الدستور ليس هو السبب في عدم تركيز المحكمة الدستورية إلى غاية اليوم.
إن قيس سعيّد تسبّب بتصريحاته يوم 9 ديسمبر في سابقة في غاية الخطورة وهي نزع القداسة عن الدستور والسعي إلى تغيير نظام الحكم بالاستحواذ على كل النفوذ والسلطات .. غير أن تاريخنا منذ عهد بورقيبة وبن علي أثبت خطورة هذه النزعة للتفرد بالحكم .. فمنذ 25 جويلية الماضي، يستحوذ الرئيس على كل السلط .. لكم ماذا فعل بها ؟ لا شيء يُذكر سوى أنه زجّ بالبعض من خصومه السياسيين في السجن وقيد الإقامة الجبرية.
ولبلوغ هدفه وإضفاء المشروعية عليه، استدعى قيس سعيّد ثلاثة من خبراء القانون الدستوري حتى يساهموا في صياغة مشروع دستور جديد يتم عرضه بعد ذلك على الإستفتاء الالكتروني .. ومن باب الصدفة، لمن يعتقدون في الصدف، أن الشخصيات الثلاث مساندة لخيارات الرئيس .. أي أن ولاءهم لهم كان العنصر المحدد لاختيارهم.
ما يستعد لإنجازه السادة سعيّد وبلعيد وبن عيسى ومحفوظ، له إسم : إنها مؤامرة ضد الدولة .. هكذا يُنظر للأمور في البلدان الديمقراطية والتي تحترم قوانينها.
لكن ليس هذا رأي الجماعة .. بالإستماع إلى أمين محفوظ فإن من الطبيعي وجود لجنة تنكب على هذه العملية، بما أنه سيتم في نهاية المطاف استشارة الشعب عبر اللجوء للاستفتاء .. ولإعطاء موقفه هذا حجّية أكبر، استدل محفوظ بشارل ديغول !.
هل يعلم أمين محفوظ أن ديغول شن حربا وخاض معركة بلاده ضد المستعمر الألماني ؟ هل يعلم أن الجمهورية الخامسة وُلدت بعد حرب عالمية وأن الأمر يتعلّق وقتها بإعادة بناء كل شيء ؟ وهل يعرف كذلك هذه المقولة لشارل ديغول: "الكلمة للشعب وكلمة الشعب هي كلمة الحاكم".
أيها الأستاذ محفوظ إن الشعب قال كلمته في 2014 .. إذا كان رئيسك قيس سعيّد يريد مراجعة الدستور فعليه أن يحترم نصوصه كما عليه أن يحترم التزامه باحترام الدستور، لأن الرجل المحترم هو من يحترم كلمته.
فلينظّم انتخابات مبكّرة وليصوّت البرلمان الجديد على أعضاء المحكمة الدستورية وليعيّن قيس سعيّد من يريد من أعضاء في هذه المؤسسة وليشرع بعد ذلك في مراجعة الدستور أمام برلمان منتخب من الشعب طبقا للنصوص القانونية.
أيريد الرئيس لجنة لتعديل الدستور؟ فليكن له ذلك لكن يجب أن تتكوّن هذه اللجنة من مختلف التوجهات السياسية والإيديولوجية، حتى تمثّل تمثيلا حقيقيا الشعب التونسي وليس فقط رأي من نصّب نفسه "القائد الأعظم". يجب أن يصادق البرلمان على هذه اللجنة مثلما قام بذلك شارل ديغول .. هكذا يجب أن تسير الأمور في بلد يحترم قوانينه .. هكذا هي الأمور في الدول الديمقراطية.
لو أن الأساتذة بلعيد وبن عيسى ومحفوظ يتعنّتون ويتمسكون بأن يكونوا شركاء متواطئين في هذه العملية الإنقلابية التي يقودها قيس سعيّد، فإنهم سيحاسبون غدا أمام العدالة وحتما أمام التاريخ.
يتأهب السادة بلعيد وبن عيسى ومحفوظ لمساعدة شخص لا يفي بوعوده، شخص ليس له برنامج واضح، شخص يفرّق التونسيين ولا يوحّدهم .. فليتذ:روا هذه المقولة لبروسبير ماريماي: "أسوأ الرجال من لا يفي بعهده" .. ولدينا في أمثالنا الشعبية ما يعبّر جيّدا عن هذا الموقف.
تعليقك
Commentaires