الهيئات الدستورية تفقد استقلاليتها وقد تفتك بالتجربة الديمقراطية
اتفق رؤساء الكتل البرلمانية بمجلس نواب الشعب خلال اجتماعهم أمس الثلاثاء عل عقد جلسة عامة يوم الثلاثاء المقبل لاستكمال انتخاب ثلاثة أعضاء جدد بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن فئات المختصين في السلامة المعلوماتية والمالية العمومية والقضاء الاداري في مرحلة أولى ثم انتخاب رئيس جديد للهيئة في مرحلة ثانية وفي نفس الجلسة. ويحتاج هذا الاتفاق الي أغلبية 145 صوتا لتمريره.
وتعيش الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ازمة تسيير حقيقية منذ اعفاء رئيسها محمد التليلي المنصري من منصبه في 28 ماي 2018 . وهي ازمة تسيير ولكن أيضا وبالخصوص ازمة استقلالية كان الرئيس الاسبق للهيئة شفيق صرصار قد أشار اليها لتفسير الأسباب التي دعته للاستقالة دون أن تكترث لذلك كل الأطراف السياسية دون استثناء. ولعل الوفاق السياسي الذي كان مازال قائما بين النهضة والنداء كان من الاسباب التى جعلت نواقيس الخطر التي حاول صرصار دقها تعجز عن ايجاد آذان صاغية.
وتدل كل المؤشرات على نجاح حركة النهضة في التسلل الى داخل المجلس المركزي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات واستمالة عدد من الأعضاء الى صفها. بل الأخطر من ذلك أن حركة النهضة استطاعت السيطرة على الهيئات الجهوية للانتخابات بشكل يكاد يكون كليا وهو ما يمثل خرقا للفصل 125 للدستور وعائقا امام نزاهة العملية الانتخابية برمتها لافتقاد الهيئات الجهوية لركن الحياد الضروري لتوفير مناخ انتخابي سليم. وقد لاحظ المتابعون للشأن الانتخابي خلال الانتخابات البلدية الأخيرة عدم حيادية بعض اللجان الجهوية للانتخابات وتعاملها التفاضلي مع القائمات المتنافسة.
لذلك فقد سعت حركة النهضة الى عدم المس بالتوازنات داخل هيئة الانتخابات وبقيت تماطل طيلة ثمانية أشهر حتي لا يتم تجديد اعضاء الهيئة وحتى لا يترشح الاعضاء الجدد لمنصب الرئيس وحتى لا يشاركون في انتخاب الرئيس الجديد. وبعد ان اهدرت الوقت وفوتت على الهيئة فرصة ترتيب أوضاعها الداخلية والتوجه الى اعادة هيكلة فروعها الجهوية في متسع من الوقت، قبلت في النهاية في اجتماع رؤساء الكتل البرلمانية أمس بتنازل شكلي يسمح بتجديد الأعضاء الثلاثة للهيئة وبانتخاب رئيس لها في نفس الجلسة العامة.
وللحقيقة فان كل الكتل النيابية الأخرى تتحمل جزء من المسؤولية في هذه "البلطجة" التي تمارسها حركة النهضة وهي تساهم شاءت ذلك أم أبت في المس من استقلالية الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وحيادها. ان السعي الى التوافق مع حركة النهضة بتعلة حجمها البرلماني لم يخدم في النهاية إلا حركة النهضة دون سواها.
بل الأخطر من ذلك ان يتعدى المس من الاستقلالية هيئة الانتخابات ليمس باقي الهيئات الدستورية. فقد اجتمعت اللجنة الانتخابية لمجلس نواب الشعب في الثالث من جانفي الجارى للنظر في ملفات المرشحين لعضوية هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد عن فئة المختصين في الاعلام والاتصال. وينص الفصل 130 من الدستور حرفيا بخصوص أعضاء هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد على ما يلى "تتكون الهيئة من أعضاء مستقلين محايدين من ذوي الكفاءة والنزاهة يباشرون مهامهم لفترة واحدة مدتها ست سنوات ويجدد ثلث أعضائها كل سنتين". لكن يبدو ان أعضاء اللجنة الانتخابية بمجلس نواب الشعب الذين يفترض ان يمثلوا مختلف الكتل النيابية لم يعيروا اهتماما لهذا الفصل من الدستور فاعتمدوا قائمة من المرشحين لعضوية هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد تضم في عضويتها السيدة سنية بن تومية.
ولمن لا يعرفها أو لا يتذكرها فان السيدة سنية بن تومية هي نفسها تلك النائبة في المجلس التأسيسي عن حركة النهضة التي شدت اليها الاهتمام بتدخلاتها الفرجوية وكانت بحق نجمة من نجوم المجلس التأسيسي. وقد خبرناها لأكثر من سنتين. لذلك يمكن التأكيد انه لا يتوفر لديها على الأقل شرطان من شروط الترشح لعضوية هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد أولهما شرط الكفاءة. فحصول المرشحة على استاذية في الصحافة وعلوم الاخبار لا يعطيها كفاءة أو أحقية خصوصا انها لم تشتغل يوما في قطاع الاعلام. كما ان تدخلاتها داخل المجلس التأسيسي لا تنم عن كفاءة تذكر في اي مجال من المجالات وان كانت تظهر روحا من الدعابة والمرح لديها.
أما الشرط الثاني الذي يستحيل أن يتوفر في السيدة سنية بن تومية فهو شرط الحياد والنزاهة باعتبارها كانت من نواب حركة النهضة في المجلس التأسيسي وترشحت على قائماتها في الانتخابات التي جرت في 23 اكتوبر 2011 .
الغريب أنه لم نسمع حتى الآن ردة فعلا واحدة من مختلف الكتل النيابية بالرغم من ان مجرد اعتماد ملفها وقبول ترشحها يعد انتهاكا صريحا لاستقلالية هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد مما يجعلنا نخشى على استقلالية كل الهيئات الدستورية التي قد تصبح بفقدانها لواجب الحياد عائقا أمام ترسيخ التجربة الديمقراطية.
تعليقك
Commentaires