تخميرة الرئيس قيس سعيّد
مرّت 36 يوما منذ أن أعلن رئيس الجمهورية عن قراراته التاريخية .. ومازالت تونس بلا برلمان ولا حكومة، لا تعرف ما هي وجهتها القادمة، في غياب خارطة طريق واضحة المعالم .. ما زالت تواجه صعوبات في محاربة الفاسدين والمضاربين والمحتكرين .. بعضهم ممنوع من السفر والبعض الآخر موضوع قيد الإقامة الجبرية ولا أحد يعلم لماذا تم اتخاذ هذه الإجراءات المقيّدة للحريات.
من بين الأحداث البارزة في نهاية الأسبوع، إيقاف المرشح للدور الثاني من الإنتخابات الرئاسية التونسية، نبيل القروي ومعه شقيقه النائب غازي القروي. تم القبض عليهما في شقة بمدينة تبسّة، شرق الجزائر، على بعد أميال من الحدود التونسية .. ورغم أنهما لم يكونا مفتش عنهما، إلا أنهما وعلى غرار المئات (أو ربما الآلاف، من يدري ؟) من التونسيين، الموجودين منذ 25 جويلية، كانا في قائمة الممنوعين من السفر. لا تهم الأسباب، المهم أن الأمر يُعجب التونسيين الذين ضجروا من المحسوبية فساد الطبقة السياسية.
الحدث الآخر يتمثل في إيقاف مرشح آخر للرئاسية وهو سليم الرياحي الذي كان يخطط للراحة والإستجمام في ميكونوس، إحدى الجزر اليونانية الساحرة، حين تم التفطن إلى كونه مفتش عنه من قبل الشرطة الدولية (الأنتربول) بطلب من الدولة التونسية. لقد أقسم مرارا وتكرارا بأنه ليس فاسدا ولا مجرما، ولكن لا أحد سيصدّق ذلك.
في تونس ما بعد 25 جويلية، إذا كنت رجل أعمال أو سياسيا، فأنت بصفة آلية، محل شبهات فساد واحتكار وغش .. الأدلّة ليست مهمة وكذلك قرينة البراءة .. ننغّص عليك حياتك في الأول ثم نرى ما سيحدث بعد ذلك.
ألا يذكّركم هذا بشيء ؟ هذه المطاردات الجماعية تذكّرنا حرفيا بما عشناه مباشرة إثر يوم 14 جانفي 2011.
إنه السيناريو ذاته يتكرّر .. فقط تغيّرت الأسماء.
في تلك الفترة كان يُقال إن الشعب ثار وانتفض ضد نظام بن علي .. هذا النظام الذي كان يعتبر أنه شرعي ومنتخب ديمقراطيا. في تلك الحقبة تم إلغاء الحكومة والبرلمان المرافق له، للشروع في عملية مطاردة جماعية وعشوائية في حق الشخصيات البارزة ورجال الأعمال الذين كانت لهم "الجرأة" في النجاح والإستثمار وبعث المشاريع في زمن النظام السابق.
بعد انقضاء عشر سنوات كاملة أي في 2021، نعود لنعيش مجددا نفس السيناريو .. يقال إن الشعب انتفض ضد النظام السياسي القائم، بحكومته وبرلمانه ودستوره .. تماما مثل النظام السابق، يعتبر النظام الحالي أنه يكتسب الشرعية والمشروعية وأنه منتخب بشكل ديمقراطي .. الشعب لفظه وما عاد له رغبة فيه، فليرحل .. الآن تم الشروع في عملية المطاردة وستكون البداية برجال الأعمال والشخصيات البارزة في عالم السياسة وعالم الأعمال.
في عام 2011 ، كان هناك جماعة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والإسلاميون، مسنودين من سرب من المحامين، هم الذين تولوا عمليات المطاردة العشوائية .. اليوم أخذ عنهم قيس سعيّد المشعل وهو الذي يقود القطيع. في كلتا الحالتين تم التصفيق للطبقة الحاكمة والتهجّم على كل من يطالب بعدم الخلط والتعميم، لإخافتهم وإجبارهم على التزام الصمت وعدم قول كلمة الحق.
صحيح أن قيس سعيّد يحظى الآن بشعبية محترمة تضاهي نسبة 80 بالمائة من التونسيين الذين يهتفون بإسمه ويصفقون له، وهذا ما يطمح إليه كل قائد سياسي في الكون .. خطته ناجحة وسياسته تروق للبعض .. وويل لمن يجرؤ على انتقاده ! لقد هاجم الرئيس الإسلاميين وهو الآن بصدد محاربة الفاسدين .. فلننتظر النتيجة.
بعد هذه السرديات فلنخض الآن في الأحداث وهي عنيدة أي أنها لا تكذب .. ماذا عشنا طوال 36 يوما ؟ لا شيء بالمرة .. سيقول لنا أنصاره الذين يدّعون المعرفة في كل الأمور: "هذا غير صحيح، يجب إعطائه المزيد من الوقت، لا يمكن إصلاح 10 سنوات من الفساد في ظرف شهر واحد". حسنا سنترك له المزيد من الوقت لمن لنتحدّث الآن عن الأفعال عوضا عن الأحداث .. ما الذي أنجزه الرئيس إلى غاية اليوم ؟
يوم 29 جويلية الماضي، استقبل رئيس منظمة الأعراف، سمير ماجول واقترح عليه إقرار عفو تشريعي عن رجال الأعمال وأموالهم المشبوهة، مقابل إعادتهم لما قدره 13،5 مليارا (لم يحدد إن كان بالدينار أو المليمات، بالأورو أو الدولار). مر شهر على هذا اللقاء، فما الذي تم فعله اليوم ؟ هل قام رجل أعمال واحد بإرجاع ولو فلس واحد ؟ منذ شهر من الآن كتبنا في "بيزنس نيوز" أن قيس سعيّد لن يرى أبدا هذا المبلغ الذي تحدث عنه وحاولنا إثبات ذلك. في المقابل تهجّم علينا أنصاره بالشتائم في محاولة منهم إبراز نقيض ذلك ورجاحة القرارات الرئاسية .. كانوا على ثقة من ثبات خطواته لكننا مازلنا لم نر شيئا بعد 36 يوما.
يوم 11 أوت 2021، أدّى قيس سعيّد زيارة تفقدية لمركزي تبريد منتجات فلاحية بكل من الجديدة وطبربة بولاية منوبة. وشدّد على أنه لا مجال للاحتكار والمضاربة في المواد الفلاحية، وسيتم التصدي لكل من يحاول التحكم في قوت الشعب التونسي وتركه للجوع والعطش. وقد بدا عليه الغضب أمام عدسات الكاميرا متعهّدا بتعقّب المخالفين، من مضاربين ومحتكرين .. عشرون يوما مرّت على تلك الزيارة ولا شيء تغيّر إلى غاية اليوم .. فالأسعار بقيت على حالها .. السبب بديهي وبسيط جدا .. لم تكن هناك أي من أشكال المضاربة أو التخزين العشوائي .. لكن لا أحد يتحدّث عن ذلك.
يوم 20 أوت الجاري، تحوّل الرئيس إلى مقر إحدى شركات بيع مواد البناء بفوشانة من ولاية بن عروس. وقد أبدى غضبه الشديد، متوعّدا بأنه سيقع تطبيق القانون على كل المخالفين وتحميلهم مسؤولياتهم .. هنا أيضا لم نرى أي شيء بعد 10 أيام.
يوم 28 أوت، تنقل رئيس الجمهورية إلى منطقة بئر مشارقة من ولاية زغوان، حيث عاين قيام وحدات الحرس الوطني وفريق المراقبة التابع لوزارة التجارة وتنمية الصادرات، بحجز 30 ألف طن من مادة الحديد، قيل إنها مخزنة بغرض المضاربة. ومن اليوم التالي تعالت أصوات المختصين للإحتجاج والتأكيد على أن الكمية المحجوزة ضئيلة الحجم ولا تمثل سوى أيام قليلة من التخزين وأنه ليس هناك أي مخالفة في ذلك .. لكن كل هذا لا يهم بما أن أنصار الرئيس يصفّقون له ويتهجّمون على كل من يدعوه إلى التحلّي بالحكمة وإعمال العقل.
قيس سعيّد قوي وقوي جدا .. ليست له أية خطة اتصالية ولا حتى مسؤول عن الإتصال في القصر ومع ذلك يتوفّق في كل مرّة يظهر فيها للعلن، في حصد هتافات الجماهير. قراراته وشتائمه تلقى ترحيبا واسعا من قبلهم .. ينظرون له كما لو كان النبي المُنقذ .. ما يقوم به قيس سعيّد ينسجم مع التوجّه السائد في هذا العصر وإسمه الشعبوية.
ليس مهما أن يجسّد قراراته، الأهم هو ضمان الفرجة.
عمليا ومنذ 25 جويلية لم ينجز أي شيء .. لا حكومة ولا برلمان .. ولا وجوه بارزة تم القبض عليها والزج بها في السجن (باستثناء فيصل التبيني ولطفي علي وهما بريئان حتى صدور الحكم النهائي) ولم يتصدّى للمضاربة الحقيقية ومصدر الفساد.
إليكم بعض الأمثلة على المضاربة الفعلية .. السجائر التي يبيعها آلاف المهربين بأسعار منخفضة بنسبة 20 بالمائة عن سعرها الحقيقي .. يقومون بتجفيف المسالك القانونية (المحلات الحاملة للرخصة) ثم يروّجونها في المسالك الموازية (مثل بائعي الفواكه الجافة والمكسّرات).
أصل الداء والفساد الرخص وما يُعرف ب"الباتيندة" .. بفضلها انتشر الفساد .. إذا كانت الدولة حريصة على القضاء على الفساد والمضاربة، ما عليها إلا أن تسحب آلاف الرخص التي تفرضها على المستثمرين. بإمكانها تعويض الرخص بكراسات الشروط، فضلا عن تحرير السوق الذي سيتنظم ذاتيا مثلما تم في كل البلدان المتقدمة. إذا تم الإتفاق بين كل الأطراف المتدخلة والمعنية، فإن الدولة تقوم بالمراقبة، من خلال مجلس المنافسة أو ضخ السوق بمواد ومنتجات تستوردها هي. منذر الزنايدي، وزير التجارة الأسبق، كان اتّبع دائما هذا التمشي واستنكر كيف أن المضاربين من مربّي الأغنام، كانوا في غاية الانزعاج حين يرون الأغنام المستوردة أمامهم في السوق المحلية.
للقضاء على الفساد السياسي لابد من توخي الحزم مع كل المخالفين .. يكفي الإطلاع على تقرير دائرة المحاسبات وتنفيذ ما جاء فيه .. يتضمن التقرير قائمة في الأحزاب والشخصيات السياسية الذين ارتكبوا مخالفات في علاقة بالإنتخابات وبالتمويل الفاسد للحملة الإنتخابية.
هذه عينة بسيطة من الأمثلة الموجودة والتي يعلمها الجميع.
فأين هو قيس سعيّد من كل هذا ؟ لا وجود له في أي مكان .. هو منشغل بصُنع الفرجة واللهث وراء تصفيق أنصاره كما لو كان إحدى المؤثرات على الأنستغرام تبحث عن "الجامات" و"اللايكات".
هناك قراءتان قد تفسران هذا السلوك.
إما أن مختلف أجهزة الدولة تتلاعب به وتقدّم له مضاربين وهميين، لتظهر له أنها تعمل. وفي هذه الحال سيكون صدق قيس سعيّد بمثابة السذاجة وقد حان الوقت لكي يكفّ عن أن يقع ضحية التقارير الملفّقة والموجّهة.
وإما أنه يفتقد لأي حل عملي من شأنه حل الصعوبات الشائكة والمشاكل العويصة التي تتخبط فيها الدولة، وهو بصدد منحنا مجرّد أقراص مسكّنة من خلال تلك الزيارات الليلية الفرجوية.
بإلهاء الشعب بعروضه الفرجوية، لا أحد سيسأله عن الحكومة وعن خارطة الطريق والحلول العملية والممكنة الكفيلة بحل المشاكل الإقتصادية والسياسية للبلاد.
الأمر يعود إلى الأنصار المنتشين بتخميرة الرئيس، ليقرروا لأي فئة ينتمي معبودهم .. أهو الساذج البسيط الذي تتلاعب به أجهزة الدولة ؟ أم الماكر، الذكي، الداهية الذي يعطيهم وصفة طبية من الحلوى، لينسيهم بأنهم مصابون بالسرطان.
تعليقك
Commentaires