حكايتان مع ارهابيين
في أحد أيام شهر مارس سنة 2005، كانت الحركة داخل مبنى قصر العدالة بباب بنات مثيرة للتساؤل، انتشار كبير لأعوان أمن بالزي المدني وإجراءات استثنائية أمام القاعة عدد 5، شدّني الفضول الصحفي، فدخلتها، كان المحامون مثنّى وثلاث يهمسون بهدوء، وكان باديا على الأمنيين أنهم بصدد الاعداد لشيء ما. كانت رائحة الرطوبة تتسلّل بين حركات الدخول والخروج، الصمت يكاد يغلب بعض الكلمات الملقية في غير الاتجاه. فجأة بدأ ادخال عدد من المساجين الموقوفين من باب ضيق صغير يفتح على مدرج يؤدّي الى غرف الإيقاف، أو ما يطلق عليها ''بيت الدجاج''. أكثر من عشرة موقوفين. لم يكد بعضهم يأخذ مكانه حتى دخلت هيئة المحكمة. خمسة قضاة يميّز لباسهم المخيف الأبيض والأسود الاّ واحد منهم كانت نظاراته كبيرة ميّز لباسه اللون الأحمر، جلس ممثل النيابة العمومية في مكانه الذي يحيط به شرطيان، واستقرّ شاب نحيف في مكان الكتابة المنخفض بالمقارنة مع بقية المكاتب.
بدأ القاضي ينادي المتهمين، استوقفني اسم سيف الله بن حسين الذي جيء به من المحكمة العسكرية، كانت حكايته مثيرة لكلّ صحفي، شاب قصير أشعث هرب من معارك أفغانستان ثم تنكّر وانتحل شخصيات عديدة، واتجه الى دبي ثمّ الى تركيا حيث مكث فترة قبل أن يتمّ تسليمه الى تونس.
كان سيف الله بن حسين الذي يكنّى في تلك الفترة ''بأبي عبد الله التونسي''، قد أنكر علاقته بالمسلحين وبتلقيه التدريبات في معسكر ''خلدن'' ولكنّه كشف عن أنّ ما يعرف بالجماعة الليبية المقاتلة هي التي كانت الضمان لسفر التونسيين الى أفغانستان والالتحاق بمناطق الإرهاب الدولي الذي كان بصدد التشكّل. كانت المعركة الأساسية لجلّ التونسيين في تلك الفترة هي ما بلغته الأوضاع السياسية في البلاد واستئثار بن علي وعائلته بتفاصيلها، لذلك لم يخف بعض الصحفيين، تعاطفهم مع المتهمين بمن فيهم سيف الله بن حسين، نكاية في بن علي وفي السلطة السياسية رغم علمهم بخطأ الموقف.
حاولنا من خلال المقالات التي تمّ نشرها، التركيز أكثر على مداخلات المحامين ومرافعاتهم، وهو ما جعل بعض العائلات تطمئنّ الينا شيئا ما.
بعد فترة من تلك الفترة اتصل بي من هو من عائلة سيف الله، وتحدّثنا مطوّلا عن أفغانستان والعراق وأمريكا وعن المحاكمات، ولم يخل اللقاء من المجاملات وتبادل التحيات.
أثناء تلك المحاكمة استرعى انتباهي شخص آخر يدعى سيف الدين، كان غليظا مصرّا في ما يقول، حيث انتبه له العديد من الحضور عندما قال إنّه هرب من أفغانستان وسلّم نفسه الى تونس لأنّه يفضّل سجون بلاده على غوانتانامو.
تحدّث سيف الدين عن فترة اقامته بميلانو الإيطالية حيث تمّ تشكيل خلية إرهابية من عدد من التونسيين، ويعتبر سيف الدين من المجموعة الأولى التي اتجهت الى أفغانستان عن طريق ضمانات الجماعة الليبية المقاتلة وهو من الذين تدرّبوا في ما يسمّى بمعسكر المغاربة وهناك تعرّف على أسامة بن لادن وعلى أيمن الظواهري.
تحدّث عن تكليفه من قبل تنظيم القاعدة بتفجير حيّ سكني في ميلانو تقطنه عجوز، قال إنها كانت تمنّ عليه من خيرها كلما اشتدّ به الحال، وأنها كانت تمدّ يد المساعدة له ولعدد من المهاجرين الذين قضوا جزءا من حياتهم مختفين في قنوات الصرف الصحّي ثم في المساجد.
قال إنّه رفض المهمّة، لأنّه يرفض أن يقتل بريئا مدّ يد المساعدة له. سيف الدين حكم عليه بالسجن لمدّة ثماني سنوات من أجل تهم متعلّقة بالإرهاب.
بعد سقوط نظام بن علي، وفي نهاية شهر مارس من سنة 2011، فوجئت باتصال هاتفي، من سيف الله بن حسين، الذي خرج من السجن بعد تمتّعه بالعفو التشريعي العام، اذ قال إنّه يريد لقائي في قاعة بجهة وادي الليل، التقيته، مع عدد من الصحفيين كان الرجل يتحدّث عن تونس باعتبارها أرض دعوة وليست أرض جهاد، كان يرغب في توجيه رسائل الى الرأي العام والسلطة من خلال ما سينشر، ولكن أخطر ما كان يردّده هو تكفير القائمين على السلطة والحديث عن أنهم سيفتحون المقابر إن تمّت اعادتهم للسجون، الغريب أنّ سيف الله بن حسين كان يتودّد الى بعض الصحفيين، وقد عرفت فيما بعد أنّه التقى أحدهم خفية عندما كان بحالة فرار بعد تورّطهم في الدم والعنف.
أمّا بالنسبة الى سيف الدين، فلقد التقيته بإحدى المقاهي بشارع جون جوراس، بعد الثورة، بدا لي أنّه مختلف عن ذلك الذي رأيته سنة 2005، كان أكثر فرحا وانشراحا ولم يبادرني بكلمات «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» بل اكتفى بقول «صباح الخير»، كنت في البداية غير مطمئنّ له، خاصة وقد انتشر السلفيون ومن معهم ومن غطّى عليهم وبدأوا بعمليات ترويع الناس واحتلال الفضاء العام. سيف الدين قال لي إنه كفر بالإسلاميين الذين كانوا يريدون منه قتل عجوز أحسنت اليه فقط لأنّها غير مسلمة، قال كفرت بهم بعدما رأيته من تمييز حدّ التحقير بين المقاتلين أنفسهم، قال كفرت بهم لما رأيته منهم من تعامل مع الأطفال والنساء، كان لهم هاجسين، الدم والجنس، لا همّ لهم غير ذلك.
قال إنّه اكتشفهم من الداخل وأدرك حقيقتهم الدموية، وقال أيضا كانت الأموال تتدفّق عبر المهرّبين والمجرمين، وكان السلاح يصلهم عبر نفس القنوات.
تمتّع سيف الدين بالعفو التشريعي العام، تزوّج إحدى قريباته فأنجبت له بنتا وولدا، وتمكّن من الحصول على عمل بإحدى الشركات، وكوّن عائلة وبدأ ببناء منزل صغير، وبدأت الحياة تتشكّل أمام عينيه.
التقيته مرّة أمام محلّ لبيع المثلجات، صافحته بحراة، كان مقبلا على الحياة، قال إنّه يريد التعويض عن تلك الأيام التي وصفها بالمظلمة، وقال إنّ يستشعر معنى الحب والحياة ومعاني الايمان في عائلته الصغيرة وفي عمله وما يقوم به من جهد من أجل أن ينجح، سألته إن كانت بعض الأفكار تجذبه الى الخلف، فقال إنّ طعم الحياة والعائلة والعمل والجهد يعطي للإنسان تصوّرا مختلفا عن الحالة التي يكون فيها محاطا بأشخاص كلّ وما يعانيه من أمراض وعقد نفسية يقوم بتصعيدها في الدم والقتل.
سيف الله بن حسين تمّ تهريبه الى ليبيا، العديد من الأخبار تفيد مقتله هناك خلال معركة درنة سنة 2016، وفي أفضل الحالات فهو طريد مطلوب من أكثر من جهة. أمّا سيف الدين، فهو يعيش حياته هانئا تونسيا، أدرك حجم الدمار الذي بلغه واكتشف العمق الاجرامي لتلك المجموعات التي تريد القتل لغاية القتل لا غير. أعادته العائلة والمجتمع من جديد الى تونس الكيان والهوية.
بين سيف الله وسيف الدين، بين من اختار طريق الموت والخراب ومن اختار طريق الحبّ والحياة ومسار تونس، هناك ألف شاب عادوا من سوريا وليبيا، تمرّسوا بالقتل والقتال وتدرّبوا على شتى أنواع الأسلحة الحربية، عادوا الى تونس بقرار دولي، جزء صغير منهم في السجن والجزء الأهم يقال إنّهم تحت الرقابة الأمنية والإدارية.
في آخر مكالمة هاتفية مع سيف الدين، قال إنّه يشعر بالخوف والخشية على تونس، من عصابات إرهابية تمرّست بالدم والقتل، ولا تستطيع أن تعيش بين أبناء هذا الشعب بسلام، فمن قتل عمدا وذبح واغتصب وهجّر الآمنين، لا يمكنه أن يعود ابدا الى الحياة العادية، إنّهم يعيشون حالة كمون تنتظر لحظة الإشارة للخروج الى العلن وإعلان التمرّد لأنّهم يكفّرون الدولة والمجتمع. قال لا تنتظروا منهم خيرا وطلب منّي أن أبلغ صوته وصوت من خبروا تلك العصابات والمجموعات الدموية.
هاهي رسالته تُبَلّغُ، الى من يوافقني هذه الكلمات أو من يرفضها، ولتكن أمام الحاكمين الحاليين صورة واضحة بأنّهم يتحمّلون كلّ المسؤولية عن إعادة عناصر الدم والدمار الى شعب آمن بالكاد تخلّص منهم.
تعليقك
Commentaires