رجاء أوقفوا النزيف
أوقفوا نزيف المزايدات على المساواة في المواريث.. من صحفي يسأل المرشّح إن كانت المسألة من برامجه .. ومرشّح يلوي لسانه مرّتين قبل أن يجيب.. وجميعهم لم يقرأ المشروع .. وجميعهم يتحدّث عن عرس الجنّ.. لأنّنا صرنا شعبا هوايته اقتناص العبارة وحتى الكلمة ليبني عليها مشروعا كاملا وموقفا كاملا.. وانساق وراءهم العامّة من مناد بالمساواة في الميراث باعتباره شرطا أساسيا لقبول المرشّح إلى مغرّد بطرح كلّ نفس حداثي قد يشتمّ من خلال الإجابة .. وانساق المرشحون وراء هذا المزلق الخطير لأنّه كلمة حقّ أريد بها باطلا .. فمن مصحّح لما تؤوّل من كلامه.. إلى مدافع شرس عن القضية.. إلى رافض في خجل .. وساع إلى تلطيف موقفه، وهو فيما يفعل مهموم بكتلة انتخابية يسعى إلى جمعها من شتات من التناقضات.. إلى رافض شرس باحث عن عبارة أو صورة تبلّغ الرسالة كما يجب فيتقبّلها أنصاره ولم لا يغازل بها أطيافا من أحزاب منافسة..
وفي كلّ مرّة يواجهني سؤال.. هو بسيط لكنّه مصيري : ماذا يقصد السائل والمجيب بالمساواة في المواريث؟ المساواة التامّة؟ مساواة لا تقبل تنازلا أو محاصصة؟ أم المساواة في المواريث مشروطة؟؟ كما وردت في تقرير الحريات ، وكما تقدّم بها الباجي إلى المجلس؟؟ والفرق بيّن وكبير..
راق لهؤلاء أن يرموا به شرطا في قبول المرشّحين، ولكن، أسألوهم: هل قرأتم فعلا ما ورد في التقرير المزكّى من الباجي؟ وهل اطمأننتم إلى أن النوافذ أغلقت؟؟ والمزالق اجتنبت؟؟ وأنّنا أمام مشروع قانون قويّ قادر على أن يحمي مبادئه؟ هل انصتم إلى نقاش لجنة الحريات بالمجلس مع المستشارين الذين قدموا للدفاع عن التقرير؟؟ طبعا ، لا ، لأنّكم لو تابعتم ما ورد من تحليل هؤلاء لصرختم للحيف الذي طبع هذا المشروع و لسألتم عن المساواة أين هي؟ وما هي قدرته على مواجهة الأعاصير التي ستلفّه لفّا. لقد صاغ هؤلاء هذا المشروع والخجل يكتنفهم، وأيديهم ترتعش وقلوبهم تضطرب لما كانت تعانيه من صراع بين ما يعتبرونه مقدّسا وما أقدموا عليه من فتح لأبواب الاجتهاد والبحث عن مقومات لحرية المرأة..
مغالطات جمّة وقع فيها الإعلام المتصدّر لنقاش المرشّحين في مسألة المساواة..لأنّهم والسبب بسيط تناولوا المسألة بعين سياسية لا بعين موضوعية رصينة.. وقعوا في الخطإ وأوقعوا معهم المرشّحين والناس.. فإذا بالمشروع قد حجب بأغطية من الإيديولوجيا تعذّر بها على الناقد أن يقف عند نقائص هذا المشروع..
لكن أتدرون لماذا أثّرت هذه المقاربة في الخطاب اليوم؟ لأنّ الجميع تحاشى أن يعرض المشروع على النقاش سواء في الصحف أو القنوات التلفزية والإذاعية.. لأنّ كتلة من الدفاع عن المبادرة تركّبت وتجنّدت لمحاصرة كلّ ناقد أو مخالف لرأي.. لأنّ المساواة افتكت من مشاغلنا وقضايانا لترتهن في يد لوبي سياسي يسعى إلى استرجاع قطعة ليست بالهيّنة من الجسم الانتخابي..
مرّة أخرى أفتح أمامكم ما ورد من حديث عن المساواة في الميراث : دعا التقرير ، فعلا ، إلى إقرار المساواة ، لكن أردفه بآخر يجبّ المساواة أصلا عندما أقرّ " بتمكين المورّث من حقّ الاعتراض على المساواة وأن يوصي في قائم حياته بقسمة تركته حسب نظام للذكر مثل حظّ الأنثيين" . وبدت هذه المساواة أكثر خجلا عندما رمى التقرير بقانون المساواة في "حِجْر" المرأة عندما أقرّ "المساواة باختيار من الوارثة، إذ يضمن القانون المساواة لمن أرادتها فيكون نصيب الأنثى بيدها بتمكينها إن أرادت من مناب مساو لمناب الذكر." وهنا تمّت عملية وأد للمشروع.. فعن أيّة امرأة نتحدّث؟ عن المثقّفة وصاحبة الأعمال الحرّة؟ وماذا عن البسيطة التي تشتغل بالحقول أو البيوت؟ ماذا عن تلك القابعة في ركن بيت ليس لها من طموح سوى عودة الزوج من عمله متعبا؟ تلك التي سلبت الإرادة ولم يبق لها سوى جهد الجسد حتى تشتغل.. هل تمتلك هذه المرأة ، والتي تمثّل ما يزيد عن نصف النساء، الإرادة بل القدرة على فتح فمها لتقف في وجه الرجل أخا كان أو زوجا لتطالب بحقّها في المساواة ، وخاصّة بعد أن حشروا ذهنها بأنّ التفكير في المسألة هو من قبيل الجهر بالمحرّمات..
هذا ما تضمّنه التقرير، لكن، ما هو المقترح الذي زكته رئاسة الجمهورية؟ وماهي انعكاساته الاجتماعية؟
رشّحت رئاسة الجمهورية المقترح الثاني، أي حقّ الاعتراض على المساواة، وفي الحقيقة كنّا ننتظر هذا الاختيار، وذلك لأنّه مقترح يعمل بالمثل السائر "لا يجوع الذئب ولا يغضب القاضي"، خاصّة أنّه مقترح يقارب في لين موقف التقليديين الأصوليين الذين يرفضون مبدأ المساواة التامّة بين المرأة والرجل، فكان أقرب إلى السياسة منه إلى الاجتهاد الفكري الحداثي. ولم يعد الحديث عن مساواة بل تحاشى المقترح المواجهة مع الفاصلة التي تعلّق بها التقليديون" للذكر مثل حظّ الأنثيين" فتعامل معها كأنّها الأصل في الفرائض وبقية المعاني القرآنية فروع لها، وأسّس لمبدأ المساواة التامّة بالنسبة إلى الأبوين والزوجين ثمّ بين الأبناء / الإخوة. وفي نفس الوقت ترك للمورّث مخرجا قانونيّا يسمح له برفض القانون الجديد والالتزام كَتْبًا بما في مجلّة الأحوال الشخصية من قوانين.
اختار من اقترح مشروع الرئاسة أن يدرج المساواة ضمن الفصل 146 من مجلة الأحوال الشخصية وهو فصل يتبع الفصلين 144 و 145 ضمن الباب السابع، وعنوانه " أحكام خاصّة" ، وهذا يعني أنّ هذه الفصول مرتبطة ببعضها بعضا، وهي تندرج في الفروع الفقهية لا غير. ومن هنا ندرك أنّ المساواة عند من وضع المشروع هي من الفروع وليست من الأصول.
فهل تحرّرَ مَنْ وَضَع مشروع القانون المتعلّق بتنقيح مجلّة الأحوال الشخصية من المرجعية الفقهية القائمة على العرف؟ و كيف نتعامل مع بقية الفصول، وخاصّة منها الفصول العامّة ؟ كيف سنقرأ هذه التنقيحات من منظور الفصل 90 الذي يذكر تحديدا أصناف الوارثين؟ثمّ ما فائدة التشريع للأكدرية والحمارية في قانون وضعي؟
ألقت المسائل المشتركة في علم الفرائض بظلالها على هذه الفصول التعديلية ، فطغى عليها الاضطراب ؛ وليتهم انضووا إلى مقالات الفقهاء في المسائل المشتركة، لأنّهم على الأقلّ منّوا المرأة بشيء من المساواة مع الذكر، إذ قالوا" بالتشريك سووا في الميراث بالنسبة لأولاد الأم ، ولأولاد الأب والأم بين الذكر والأنثى ، لأن الميراث ثبت لهم باعتبارهم أولاد أم . والحكم فيهم المساواة"
هذه بعض من المشاكل التي مازالت تنتظر أن نتناقش فيها دون تعصّب أو غضب، لأنّنا منشغلون أصلا بالمساواة التامة .. مساواة لا تقبل تنازلا أو شرطا، لأنّ من ينساق وراء المساومات مآله الخسران.. ولأنّ بلدا مثل تركيا أقرّ هذه المساواة دون قيد أو شرط رغم ما يقال عنها من هيمنة الإسلاميين عليها..
تلك هي رحلة العذاب، والمحاصرة والصنصرة حتى يبلّغ الفاهم رأيه.. وكلّف الكثيرين أن أضاعوا صداقات ما كان لها أن تهتزّ لو قامت على صدق النية.. ويسترسل النزيف إلى اليوم فإذا به يقصي الناس عن المشاكل الحقيقية التي ينطوي عليها المشروع ليتحوّل الرافض للمشروع رافضا للمساواة!!!!!
وتلك هي مأساتنا القائمة على المغالطات.. والتحوّل بالقضية من مسارها الحقيقي العامّ إلى تأويل كلّ نقد بعين توّجهها المصالح السياسية .. ونكون بذلك قد رمينا بالمشكل جانبا لنرتمي في السبّ والشتم..
أوقفوا هذا النزيف .. وافتحوا المشروع المعروض للنقاش بين المرشّحين .. واعرضوه على المجتمع لينظر فيه.. فلا تتطوّر الشعوب بالسباب والشتائم
تعليقك
Commentaires