طريق الكرامة
15:00 عصرا
فقد رمضان كلّ معانيه الدافئة، وكلّ روائحه الأُولى، وكلّ مذاقاتهِ الحيّة. إنها أيام رمادية، تمرُ ساحبةً الألوان من الأفق.
أمضيتُ نهاية الأسبوع مُنقطعةً عن كلّ ما سيفسد مزاجي. التلفاز، الفايسبوك، الخروج لأتفاجئ أن الشوارع مُزدحمة. كان كتاب بالرّف يرجو أن أُتّــمه، كتاب رمادي هو الآخر، وكان ضجري أثقل من أن يتركني أمد يدي إلى المكتبة، كُنت سيزيف وكان ضجري صخرةً أرفعها من أسفل الوادِ إلى أعلى الجبل.
كان "طريق الكرامة"، ذلك الكتاب الرمادي لـ حمة الهمامي، أحمرًا من الداخل. أتذكرُ أن الكتاب صدر بالتوازي مع حملة مُقرفة ضده، لأن إسمه ورد بلائحة المنتفعين بالتعويضات.
فسخر منه حتّى من تحصل على تعويض من "الرفاق" و"الثوريين". نزعوا عنه نيشان النضال، وتركوهُ في العراءِ للوِحشة، بلا وجه، يجف من ماضيه، رغم ما خطّهُ في هذا الكتاب من قصص عن العرق والدماء.
منذ سنوات وأنا أبحث عن لون أكثر إنصافًا لذاتي، أكثر واقعيّـة من عالمِ البياناتِ الشيوعيّـة. اللّونُ الأحمر كان مُناسبًا لتأطير الرفيقة المُراهقة، اظنّ أنّ السيدة الآن تريد لونًا أكثر هدُوءًا و حقيقيّة، لونًا غير مبالغ فيه، لا يعمي ولا يضّر بصرًا.
أتممت الجزء الذي أجلته مرار، وأنا ألتهم بقايا المقرونة من 'شقان فطر' الأمس، وحدي في غرفة الجلوس بينما نصف البيت نيام، مجهدون من الصوم، ونصفه الاخر في أحد المغازات في رحلة عائلية. شكرا على هذه الحرية، التي تتوهج تحت سقف منزلنا وبيقية البيوت ظلماء.
" إنّهم مُنافقون" هي كل ما استطيع أن أفكر به بعد اتمام الكتاب وتذكر ما مرّ به الهمامي، أظن أن هذه التسع سنوات بعد الثورة كانت أكثر قساوة من الثلاثين التي قضاها قبل 14 جانفي مناضلا. الكل يرفض أنْ يبيع نضاله، ويهزأُ ممن يشكو إلى الدولة حالهُ ويطلب تعويضًا، إلى أن يأتِي التعويضْ، فيصبح الكلّ مناضلاً "من حقّه" أن يطالب بتعويضْ. كانت هذه هي الفلسفةُ الملتوية في مقرات الأحزاب اليسارية الباردة؛ سنقبل بالتعويضات لأننا نستحقها، ونشوه كل من يقبل بالتعويضات ممن ليس منا.
إنهم منافقون، يا حمّة، وأنا أحس بكل صفعة وُجهّت إليك، ويحرق عينيّ الغاز المسيل للدموع في كل صفحة، وأحس بالاسفلت باردا ومبتلا تحت ساقي.. لا يمكنهم أن يسلبوا منك هذا. الكلّ لايسمح له كبرياء الثوريّ أن "يضع اليد في اليد" مع النظام، إلى أن يمنحه نفس النظام وظيفةً عمومية. الكل يعتبر أن حركة الإخوان-النهضة تتاجرُ بقضايا تعذيب منتسبيها، حتّى ترصد حكومتها التعويضات فيصبح التعذيب عملةً في بورصة الثورييّن كذلك.
عزيزي الثوري الذي تعتقد أن الهمامي باع نضاله، إن كُنت تعتبر أن النضال لا يباع ولا يشترى فلا تقبل بتعويض مهما كان نوعه. عزيزي الثوري الذي يعتبر أنّ الدولة سلبتك حقّك سابقا والتعويض هو حقّك، فآقبل ولا أحد سيلوم عليك.. أمّا "حلال علينا حرام عليكم" وتشويه المناضلين فسياسةُ المنافقين. والواقع أننا مازلنـا نموت تعذيبا ولا أحد يفكّر في جبر أضرارِ الـيــوم. فالنظامُ كان طاغيـا القاعدة فيه هي التعذيبْ والسجن وسلب الحقوق لمن قال "لا"، وأما اليوم القاعدةُ هي " الحرية والإستثناء الديمقراطي الوحيد في العالم العربي" ومع ذلـك يبدو التعذيب اليوم مسألة هامش.. مقابل أيّ هُراء آخر ستقنعك الدولة أنّهُ أهّم.
يا غد الشيوعيّة الذي غنيّتك وغنيّت لك، لا تأتِ براس أمّك لا تأتِ، بش تندم وترجع منين جيت.
انهم منافقون.. وطريق الكرامة مازال أمامنا طويلا، صعبا، لازما.
تعليقك
Commentaires