عُـــدنـــــا !
8.20 صباحا
أتى الصباح وربما يكون خيرا، لكن هذه الفتاة لم تنم.
انطلق تحويل الوجهة، أقصد الحجر الموجه، منذ أمس. أسفة يا يوميات الكورونا لأنني تركتك تذبلين وحدك كنص قديم عن أهداف الثورة في مدونة شاب يساري متحمس.
ظننت أنّ هذا الهراء انتهى. لا أقصد الثورة، بل الحجر الصحي، فالثورة لم تبدأ بعد. ظننت أن الظُلمة رُفعت وعادت الشّمس وحلّ الخلاص الذي تحدث عنه الأنبياء في الأخبار وهم يقرؤون مؤشرات تحسن الوضع الوبائي من الشاشات المُرتكزة خلف الكاميرا حيث يمر الكلام عموديا كجينريك النهاية ويقرأ منها الصحفي الأنباء علينا كمزامير داوود.
لكن أقصوصة أصحاب الكهف لم تنتهي بعد. ولا يوجد معجزة في هذه القصة. لمن تقرأ زبورك يا داوود.. اصمت وكفاك هرطقة وتبشيرا بجنة لن يتركك كوفيد 19 تراها هذا الصيف.
ينسحبُ الوقت الى الخزانة مجددا، ونعود الى الزّمن السرمدي الذي لا تدقّ ساعاته، ولا يهم خلاله في أيّ يوم صرنا أو ماذا نلبسُ أو متى استحممنا اخر مرّة. نعود الى الخلف، مادين أذرعنا الى الأمام بأجساد عوجاء كخطّاف صيد السمك. هذا هو شكلنا الجديد، أقدامنا عادت الى قاع رتابة الحجر الصحي وأيدينا مازالت ممدوة من النوافذ راجين أن يمد أحد ما أو شيء ما أو خبر ما كف العون لينتشلنا من هذه القصة. الهي، أريد معجزة لهذه القصة.
تتجمع الدنيا على السقف مجددا، عالية لا تطالها القامات بعيدة في أفق علينا أن نقف لنصل له لكننّا مستلقون طوال الوقت على ظهورنا كالصراصير الميتة. وحين يُضجرنا النوم نعدل جلستنا ونصغي الى صرير عظامنا، لشدة ما تيبست صارت كالحديد الصدء المحبوس داخل الجلد واللحم.. كلّ خطواتنا احتكاك الحديد على الحديد، تصدر اصابعي صريرا حين أرقن الحروف على حاسبي، تصدر سيقاني صريرا حين أجر نفسي الى الحمام، تصدر رقبتي صريرا حين أدير وجهي، كالابواب التي لا تجد من يُغلقها، فتأن جيئة وذهابا الى لا مانهاية.
تغيبُ الأجساد عن المرايا مجددا، بعد أن لبسنا ليوم واحد أثوابا ملونة تشبهنا وحددنا أعيننا بالكحل العربي وأسدلنا شعرنا على أكتافنا ومضينا في وحشة الشوارع بأقنعة طبية تبتسم تحتها الثغور لرؤية السماء مجددا، وتحولت كلّ المدن لحفلات تنكرية ضخمة.
لكن لا، لم ينته الأمر بعد.
الحجر ان كان شاملا أو موجها أو نصّ نصّ أو شطر لفة هو حجر في نهاية الأمر. لا، لم تتنفس هذه المدينة بعد، لا يوجد موسيقى في الشوارع كما تخيلنا مشهد العودة في أذهاننا الهليودية الساذجة، لم تطر الفراشات فوق رؤوسنا ولم تٌغني القطط ترحابا، لم يرقص المارة 'الفالس' أو الفزّاني، لم ينثروا لنا بتلات الورد على الطرقات ولم يفرشوا الزرابي الحمراء تحت أقدامنا لنمر عليها لأول مرة. لا نستطيع أن نغادر مدننا لنرى عائلاتنا البعيدة أو الريبع في قُرانا. لا مقاهي أو حانات مفتوحة لضجيجنا، لا قُبل للعشاق في زوايا الأنهج الضيقة ولم يتعانق الأحبة بعد، لم تفتح صالة سينما المونديال ولم يعد باعة الكتب المستعملة الى أرصفة الباساج. لا شيء. لاشيء. لا يوجد أيّ حياة خارجا سوى ميكانيكية المؤسسات التي تجتر عملتها كي لا تُفلس الحيتان. كلّ هذا اللجب والدويّ الحكومي كان من أجل الحيتان. خدعوكم، لم تعد الحياة بعد. ومازلت هنا أجلس مع شخصياتي كل صبح لنختار أيّ مزاج نرتدي اليوم ونحن نحج بين الكرسيّ الأزرق في المطبخ وأريكة غرفة الجلوس وسريرنا الخشبي وأفكارنا السوداء.
وستكونون معي مجددا، لسوء حظكم.
الى الغد
تعليقك
Commentaires