قيس سعيّد قريبا في طريق مسدود
الرئيس قيس سعيّد يتحوّل أمس الأحد إلى أحد مقاهي وسط العاصمة حيث احتسى قهوته بشارع الحبيب بورقيبة .. التاريخ هو 7 نوفمبر 2021 .. في مثل هذا اليوم منذ 34 عاما كان الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي يعدّ لانقلاب طبي على الحبيب بورقيبة ويتولى مقاليد الحُكم الفردي طيلة 23 سنة .. في البداية كان الجميع يصفقون لبن علي .. كان ذلك فقذ في البداية لأنه بحلول فترة التسعينات تحوّل (التحوّل) أو العيد الديمقراطي إلى كابوس.
السؤال المطروح اليوم: ماهي الرسالة التي يودّ قيس سعيّد توجيهها لنا بخروجه ليحتسي قهوة يوم 7 نوفمبر ؟ هل يريد الاحتفاء، على طريقته، بما كان يمثّله بن علي في بدايات حكمه أم في النهايات ؟ علما بأنه لا وجود للصدفة في عالم السياسة وأن قيس سعيّد يتحلّى بما يكفي من الذكاء لكي يقوم بهكذا أفعال بطريقة اعتباطية .. من المؤكد أن خروجه إلى الشارع بالأمس له معنى .. لكن أي معنى بالضبط ؟
في تونس بقيادة قيس سعيّد، لدينا عدد من الوزراء السابقين قيد الإيقاف التحفظي بشبهة وجود ملفات يشتبه في كونها فارغة حسب أعضاء هيئات الدفاع ..
في تونس بقيادة قيس سعيّد لدينا عدد من النواب رهن الإيقاف التحفظي لأسباب وهمية وتتم ملاحقتهم من قبل القضاء العسكري .. واقعة المطار التي يلاحقون من أجلها، ورغم خطورها، لا يمكن أن تكون سببا في سجنهم.
في تونس بقيادة قيس سعيّد، لدينا صحفي يقبع وراء القضبان لأنه ألقى أبيات شعرية مناهضة للرئيس .. القانون التونسي واضح في هذا الصدد .. الثلب والقذف، عقوبتهما ليست السجن.
في تونس بقيادة قيس سعيّد، تحرم إدارة السجون، المساجين السياسيين من حقوقهم الأساسية .. النائب ياسين العياري تعرّض للإهانة والنائب مهدي بن غربية تم حرمانه من أن يحضن ويعانق ابنه، رغم وجود ترخيص من القاضي.
في تونس بقيادة قيس سعيّد، تم وضع بعض الشخصيات في الإيقاف التحفظي ومنع آخرين من السفر، دون أن نعلم الأسباب .. ثم تم رفع هذه الإجراءات دون أن نعلم الأسباب أيضا.
كل هذه التدابير التعسّفية والمقيّدة للحريات والمستبدّة تعطينا الإنطباع بأن قيس سعيّد أصبح أكثر فأكثر شبيها لزين العابدين بن علي في نهاية حُكمه مما كان عليه في البدايات.
ومع ذلك حين نرى أن قيس سعيّد يحظى ب82 بالمائة من نوايا التصويت، حسب آخر استطلاع للرأي قامت به مؤسسات إيمرود وبيزنس نيوز والتاسعة، قد نقول عكس ذلك .. قيس سعيّد يشبه أكثر بن علي في بداية حكمه حين كان يفوز بنسبة 100 بالمائة من الأصوات في الإنتخابات (مع نسبة مشاركة في حدود 76،1 بالمائة و0،7 بالمائة نسبة البطاقات البيضاء) في ظل دعم ومساندة آنذاك من منصف المرزوقي واليسار والإسلاميين.
إذن ماهو الجواب الأقرب للصواب ؟ لأيهما يشبه أكثر قيس سعيّد وما هي الرسالة التي أراد توجيهها من خلال خروجه للشارع يوم 7 نوفمبر ؟
رغم الشعبية الكبيرة التي يحظى بها رئيس الجمهورية، هناك حقائق لا ريب فيها في العلوم السياسية .. الشعبية شيء عابر لا يدوم وعادة ما يضمحل بسرعة.
الذين يصفقون لقيس سعيّد، مبتهجون لأنه خلّصنا من الإسلاميين ومن المهرّجين تحت قبة البرلمان ولأن يحمل مشروعا لمكافحة الفساد.
لكن وبعد مرور 3 أشهر على قرارات 25 جويلية، لم تتم محاسبة الإسلاميين ولا هو استرجع الأموال المنهوبة من قبل "الفاسدين" أما مهرّجو البرلمان فهم أحرار طلقاء.
مهار زيد، راشد الخياري، محمد العفاس .. جميعهم من حثالة المجتمع ومع ذلك هم أحرار طلقاء وقد أثبت بوليس قيس سعيّد أنه عاجز عن الوصول إليهم.
القضاة أصحاب شبهات الفساد، أمثال الطيب راشد والبشير العكرمي، هما أيضا طلقاء كما أن ملفات الشهيدين البراهمي وبلعيد لم تراوح مكانها.
كان رئيس الجمهورية أعلن يوم 25 جويلية أن بحوزته قائمة إسمية في الفاسدين والمليارات التي نهبوها .. إلى غاية اليوم لم يسترجع مليما واحدا ولم يكشف عن إسم فاسد واحد.
يوما ما سيستفيق أنصار قيس سعيّد من سباتهم ويتأكدون من أن الرئيس ليس له سوى الكلمات ..
لكن يبدو أنها ليست انتهاكات الحريات والوعود الزائفة هي التي ستسقط شعبية قيس سعيّد .. نقطة ضعف سعيّد هي الإقتصاد ومن هناك سيتكون سقطة الرئيس .. هو يقترب اليوم بخطى حثيثة من الطريق المسدود ومن واجبه كشف الحقيقة أمام الشعب ولا سيما أنصاره الرافضون لكل أشكال المعارضة.
في بداية حكمه كان قيس سعيّد يتجاهل كل من يقول له إن خزائن الدولة فارغة وأن تونس على وشك الإفلاس .. كان يزعم أن تونس بها مقدّرات مالية ضخمة وأن الفاسدين نهبوها وهم مطالبون بإرجاعها .. كنا نقول إنها مجرد ترّهات وأراجيف وكانوا يشتموننا ويهددوننا متهّمين إيانا بكوننا مدفوعي الأجر ونعمل لفائدة الفاسدين.
تم بعد ذلك دق ناقوس الخطر من قبل البنك المركزي والتخفيض من الترقيم السيادي لتونس من طرف مؤسسة "موديز" التي استهزأ بها قيس سعيّد ووصفها بأمّك صنّافة، معلنا أن تونس قادرة على الخروج من الأزمة الراهنة بمفردها أو بمساعدة بعض الأصدقاء.
بخصوص الأصدقاء، نبّهناه إلى أنه لا وجود لأي دولة في العالم قد تساعدنا دون مقابل .. تطلّع منه الأمر لاستيعابه بضع أسابيع قبل أن يقبل به.
بقي أمامه الخيار الثاني وهو أن يخرجنا من هذه الأزمة بالتعويل على ذاتنا دون اللجوء إلى الغير .. لكن كيف ذلك ؟ منذ عشرين يوما بدأ بالحديث عن التقشف.
ثم تجرّا يوم الخميس الماضي خلال مجلس الوزراء، وطلب من التونسيين مساعدة الدولة.
هو لم يستوعب الأمر بعدُ وسيتطلّب منه ذلك شيئا من الوقت .. التونسيون لن يحلّوا المشكلة .. لماذا ؟ لأن التونسيين ينتظرون من الرئيس أن يساعدهم وليس العكس .. ثم لأن التونسيين ليست لديهم أموال يقرضونها للدولة .. القلّة القليلة من الأثرياء سيرفضون تمويل حالة البذخ التي تعيشها الدولة.
إذا كان قيس سعيّد في برجه العاجي، يعيش حالة انفصام عن واقعه، فإن رئيسة الحكومة، واقعية، خلافا له.
خلال اجتماع مجلس الوزراء الآنف ذكره وفي الوقت الذي يطلب فيه قيس سعيّد من التونسيين أن يقرضوا الدولة ويساعدوها، كانت نجلاء بودن تستعرض بعض القروض الخارجية .. بعد يومين من ذلك الإجتماع، أعلن البنك المركزي عن استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
هذا يعني أن نجلاء بودن بصدد تطبيق سياسة مخالفة تماما لسياسة قيس سعيّد.
فهل سيتمكّن صندوق النقد الدولي، مرّة أخرى، من إنقاذ الحكومة، مثلما فعل ذلك طوال السنوات الثماني الماضية؟ أرجو ألا يتم ذلك، لأنه علينا وضع حد لهذه القروض التي سيسددها أبناؤنا .. هناك قروض جيدة مثل تلك التي تستثمر في إنجاز مشاريع البنية التحتية أو المشاريع المستقبلية .. وهناك قروض سيئة مخصصة لخلاص قروض سابقة .. القرض الذي تستعد نجلاء بودن للحصول عليه هو قرض سيء مثل سابقيه .. صندوق النقد الدولي كان طالب تونس بإدخال حزمة من الإصلاحات لكن ذلك لم يتحقق.
المشاكل التي تتخبّط فيها البلاد التونسية ليست ظرفية بل هي مشاكل هيكلية.
على نجلاء بودن ورئيسها قيس سعيّد الانكباب على حل المشاكل الحقيقية وكشف الحقيقة للتونسيين.
لكن لقيس سعيّد رأي مغاير .. فهو يفضّل الحديث عن أمّك صنّافة وعن السيادة واستقلالية الخيار الوطني، عوضا عن القبول بحاجته للمساعدة الخارجية.
هو يفضّل الحديث عن الفاسدين، بدلا من تسريح الآلاف من الموظفين الوهميين.
يفضّل الحديث عن المليارات المنهوبة من قبل اصحاب المؤسسات، عوضا عن خوصصة المؤسسات العمومية التي تعرف صعوبات مالية بالمليارات.
يفضّل المصادرة عن الإصلاح
يفضّل القصاص الشعبي على الحقيقة المُرّة.
قيس سعيّد ليس أمامه خيار آخر اليوم فقد وصل إلى نهاية طريق مسدود .. عليه أن يقرّ أمام التونسيين بأنه نضطر للتداين من أعراف "أمّك صنّافة".
إذا قال له صندوق النقد الدولي لا (وهو غير مستبعد نظرا لترقيم "أمك صنّافة" والسياسة الاستبدادية المتبعة منذ 25 جويلية)، فإن من واجب قيس سعيّد تسوّل المال من التونسيين والتخفيض من أجور موظفيه .. هو أيضا أمام خيار ثالث يتمثّل في طباعة الأوراق المالية.
بالنظر إلى أنشطته خلال الأسبوع الماضي، فإن الرئيس يتّبع هذه الخيارات الثلاثة بالتوازي ..
في الحالة الأولى سيفقد مصداقيته لدى عامة الشعب.
في الحالة الثانية سيكون مصيره الفشل.
وفي الحالة الثالثة (في صورة خضع البنك المركزي للضغوط) فإن مصيره سيكون بلوغ التضخّم نسبة من رقمين ..
مهما كان الخيار الذي سيتّبعه الرئيس، فإن شعبيته ستتراجع .. الخطر الأكبر بالنسبة إليه يتمثّل في الخيارين الثاني والثالث وما يعنيه ذلك من غضب شعبي عارم.
بقطع النظر عن الرسالة التي أراد توجيهها أمس، فإن قيس سعيّد أقرب لما آل إليه زين العابدين بن علي في نهاية حُكمه مما كان عليه في بدايته .. فالسياسة القمعية حين تتعزز بالعجز عن تحقيق الإنتعاشة الاقتصادية المنشودة، لا يمكن إلا أن تؤدي به إلى طريق مسدود .. وهذا أمر بديهي ليس في حاجة إلى مختص في الخوارزميات.
تعليقك
Commentaires