لماذا وُجد يساريون في تونس دون يسار؟
ليس لليساريين في هذه البلاد من يسار، الحقيقة دائما واحدة وهي وحدها ثورية، والحقيقة تقول إنّ اليساريين في تونس خاضوا تاريخ هذه البلاد دون يسار، وقدّموا الشهداء والمشرّدين والمساجين، ولكنهم كانوا دائما يفتقدون ذلك اليسار الذي يجعلهم يكونون أصحاب التاريخ والحلم.
كيف كان اليساريون دون يسار؟ ولماذا يمكننا الحديث عن يساريين دون الحق في الحديث عن اليسار؟
من هم اليساريون؟ ومن هو اليسار؟
اليساريون هم التقدميون، أي أولئك الذين يؤمنون أن النموذج التاريخي هو مشروع ينجز عبر التاريخ وهو متغيّر وقابل للمراجعة واليساريون هم تقدميون يؤمنون أنّ حركة المجتمع وحركة التاريخ تسير وفقا لقوانين الطبيعة ووفقا لقواعد التطوّر، ولا يؤمنون بوجود قوى غير مادية وغير طبيعية تقف وراء تلك الحركة.
اليساريون هم تقدميون يؤمنون بالعدالة الاجتماعية ويؤمنون بحق الانسان في الحرية وفي الحياة ويرفضون القهر والاستغلال والاستعباد ويدافعون على المظلومين ضدّ قهر السنين ويناضلون من أجل مجتمع ديمقراطي ودولة عادلة....
باختصار اليساريون يحبون الانسان والحياة، لذلك فانّ جلّ التونسيين هم يساريون وجلّ الناس كذلك أيضا.
سياسيا هم منتشرون في جلّ الفضاءات الحزبية والجمعياتية وفي النقابات وخارج الأطر، منهم حتى من يقول إنه ليبرالي ولكنه يدافع عن قيم اليساريين وهو أكثر يسارية من أولئك الذين يتزعّمون أحزابا وهم مجرّد بقايا الاقطاع المقبور.
أمّا اليسار وبقطع النظر عن أصل الكلمة وظهوره التاريخي في أوروبا في سياقات العقد الاجتماعي وانحيازه للعمال ضدّ مالكي وسائل الإنتاج... فهو باختصار الانحياز الأيديولوجي والسياسي والقيمي للفكر الشيوعي والاشتراكي عبر التاريخ.
اذن اليسار هو إطار وجودي ومعرفي وقيمي، وبالتالي فانّه ليس اليساري من انخرط في هذا الإطار بل من مارس القيم التي جاء بها اليسار عبر التاريخ والتي تؤسّس زمانيا للقادم.
عندما نستنطق التاريخ السياسي والاجتماعي في تونس، هل يمكن أن نعثر على آثار لليسار؟
اليسار التونسي بدأ تاريخيا مرتبطا باليسار الفرنسي سواء من خلال تجربة الحزب الشيوعي أو من خلال تجربة برسبكتيف.
تجربة اليسار التونسي، الماركسي اللينيني، عرفت، جذوتها، في الردّ على ماكانت تسميه آنذاك القيادات الماركسية بميوعة الحزب الشيوعي، سواء في علاقة بالمسألة القومية، وخاصة القضيّة الفلسطينية وفي علاقة بالمسألة الوطنية والديمقراطية مثل طبيعة النظام وطبيعة المجتمع.
وتجربة الحزب الشيوعي التي تعتبر، رغم كل الانتقادات الموجهة اليها تجربة فريدة وثرية بالمواقف والأحداث والمقاربات، وقد تعرض مناضلوه الى المضايقات سواء في فترة الاستعمار أو في دولة بورقيبة الذي وصل به حد حله ومنع التعددية الحزبية وأي نشاط سياسي الا في إطار الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، قبل أن يعود للنشاط من جديد في الثمانينات.
في التسعينات وبعد انهيار المعسكر الشرقي، قرر مناضلو الحزب الشيوعي التخلي عن تسميته القديمة واختاروا اسما جديدا وهو حركة التجديد وكان ذلك في أفريل 1993 وكان أمينه العام محمد حرمل ثم لاحقا محمد الحلواني وأحمد ابراهيم، وبعد الثورة، دخلت حركة التجديد في ائتلاف سياسي سُمي القطب الديمقراطي الحداثي، وذلك للمشاركة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ثم في أفريل 2012 دخلت حركة التجديد في اندماج سياسي جديد من مناضلين من حزب العمل وناشطين من القطب الديمقراطي الحداثي، وأسسوا حزبا جديدا أطلقوا عليه اسم المسار الديمقراطي الاجتماعي. اذن كانت التجربة من الحزب الشيوعي ثم حركة التجديد وصولا الى حزب المسار.
في فترة السبعينات حيث أوج الفصائل اليسارية في تونس كانت تجربة الشعلة، وهي تجربة أُريد لها أن تبقى مهمّشة
اذن الخريطة الأصولية لليسار التونسي، يمكن ارجاعها الى تجربة الحزب الشيوعي التونسي.
لقد كانت النخب اليسارية معارضة لخيارات بورقيبة، ولسياساته، واعتبرت أن مواقف الحزب الشيوعي كانت مائعة وغير جذرية، لذلك وتم تأسيس تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس /آفاق/ برسبكتيف سنة 1963 في فرنسا من قبل يساريين وقوميين وتم نقل نشاط برسبكتيف الى تونس بعد سنة من تأسيسها، الا أنّ مناضليها تعرضوا الى هجمة قمعية وتمت محاكمة رموزها ومناضليها على إثر أحداث سنة 1967 وتواصل نشاطها الى أن تم الافراج على بعضهم سنة 1970 ثم عاود النظام قبضته القمعية، لتخفت تجربة برسبكتيف شيئا فشيئا، وتنتهي فعليا سنة 1975.
لكن كان لبرسبكتيف تواصلا، اذ عرفت مرحلة جريدة "برسبكتيف العامل التونسي"، التي أدت تدريجيا الى تجربة العامل التونسي، التي كان من مؤسسيها عبد الرؤوف العيادي ثم لاحقا جيل حمة الهمامي والصادق بن مهني... وغيرهما ثم في 3 جانفي 1986 تمّ تأسيس حزب العمال الشيوعي التونسي الذي حصل على التأشيرة بعد الثورة ثمّ غيّر اسمه بأن حذف كلمة شيوعي في جويلية سنة 2012، ومنذ تأسيسه وحمّة الهمامي هو الشخصية الأولى.
لقد كانت حركة برسبكتيف تعتبر أن المجتمع التونسي هو مجتمع رأسمالي وأن ّ النظام هو نظام برجوازي، وبالتالي فانّ طبيعة الثورة حتما ستكون اشتراكية وكانت برسبكتيف تعتبر أن تونس هي أمّة وأن التونسيين يشكلون شعبا، لذلك كانوا يكتبون باللهجة التونسية أو باللغة الفرنسية.
لكن تجربة العامل التونسي، عملت على القطع تدريجيا مع تجربة برسبكتيف، عندما اعترفت بالقضيّة الفلسطينية كقضية تحرر وطني واعادت الكتابة باللغة العربية واعتبرت أن تونس جزءا من الأمّة العربية، واعتبرت أن طبيعة المجتمع التونسي هو مجتمع رأسمالي تابع، وهو ما يقتضي نظريا بشكل لاحق تصنيف النظام على أنه فاشي.
أثناء ذلك كانت الشعلة التي جمعت بين ما يعرف بال CMLT التجمع الماركسي اللينيني و GMLT الحلقات الماركسية اللينينية في المهجر وفي خريف 1973 تم الاعلان عن تنظيم الشعلة.
الشعلة تجاوزت في أطروحاتها مقولة المجتمع الرأسمالي والمجتمع الرأسمالي التابع، وقالت بالنظرية الماوية في اعتبار المجتمع التونس لم يبلغ بعد مرحلة الرأسمالية ولا يمكنه أن يكون مثل المجتمع الفرنسي لذلك اعتبرت المجتمع التونسي مجتمع شبه اقطاعي شبه مستعمر، كان لتلك المقاربة استتباعات في قراءة طبيعة النظام الذي اعتبر على انه نتاج تحالف طبقي بين البرجوازية المرتبطة بالاستعمار وهي البرجوازية الكمبرادورية، والاقطاع وبالتالي فان للمسألة الوطنية أولوية باعتبار البلاد من أشباه المستعمرات، وهو ما يفترض ثورة وطنية ديمقراطية ذات أفق اشتراكي.
أما بالنسبة الى المسألة القومية فان الشعلة تعتبر أن الأمة العربية لم تتشكل بعد وأنها في طور التشكل، واعتبرت ان العامل الاقتصادي هو عامل اساسي اضافة الى اللغة والأرض والمصير المشترك، وتعتبر أن القضيّة الفلسطينية هي البوابة الرئيسية للمسألة القومية، وكانت الشعلة في مقارباتها بالنسبة الى القضية الفلسطينية أقرب الى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
في ديسمبر 1977 أصدرت الشعلة نشريتها، وتحدثت لأول مرة عن بلورة الوعي الوطني الديمقراطي، لتبدأ في بداية سنة 1980، ولأسباب أمنية وتنظيمية، توسيع نشاطها، من خلال الابقاء مركزيا على قيادة الشعلة وفي الأطراف عناصر يطلق عليهم وطنيون ديمقراطيون أيّ انهم مناضلون يتبنون الطرح الوطني الديمقراطي في العموم، الا أن تلك الهيئات التنظيمية الفرعية والمرتبطة بالحزام الأول والثاني للشعلة ستتطور لاحقا لتأخذ شكلا آخر من خلال ما سيعرف لاحقا بالوطد.
من الأسئلة التي مازالت مطروحة، هي هل أنّ ما يسمّى بالوطد، هم امتداد لمنظمة الشعلة، أم يمثلون مقاربة ماركسية لينينية جديدة؟ وطبعا داخل هذا السؤال تطرح اشكالية فرعية في الجانب الايديولوجي، هل هم ماويون أم يكتفون بالماركسية اللينينية والستاليتية؟ وهذا مشكل آخر.
إنّ تجربة اليساريين في التاريخ التونسي المعاصر كان لها تأثير خاصة في الأوساط الجامعية وفي الحركة العمالية عبر الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعتبر من المعاقل الأساسية للحركات العمالية اليسارية، ويعود ذلك الى طبيعة العمل النقابي الذي هو في نهاية الأمر عمل يساري غايته الدفاع عن العمّال وتأمين حقوقهم.
لكن تلك التجربة لم تتمكّن عبر تاريخها من التأسيس لإطار تنظيمي قادر على:
أولا: تجميع اليساريين وكلّ المؤمنين بالتغيير الديمقراطي والتأسيس لجمهورية اجتماعية ديمقراطية.
ثانيا: تقديم القراءة الموضوعية للواقع الموضوعي وإنجاز المهمّة التاريخية المتمثّلة في التغيير الثوري.
ثالثا: تعبئة الجماهير الشعبية وتحويل الفكرة الى السكنى في رؤوس الناس لتصبح قوّة ضاربة وقادرة على التغيير.
رابعا: المساهمة في إدارة الدولة أو التمثيلية البرلمانية ومراكمة العمل المؤسساتي.
خامسا: توحيد القوى التي لها مصلحة في التغيير.
إنّ الإطار الهيكلي لليسار لم يعرفه التاريخ التونسي، بلّ ظلّ مشروعا تمّ تناوله ضمن سياقات مختلفة عبر تاريخ المجموعات اليسارية خاصة في فترة الجامعة.
إنّ الحزب اليساري لم يعرف النور بعد، فالمشهد السياسي يحتاج توازنا بين القوى القادرة على تعبئة الجماهير والتي لها القدرة على إدارة الدولة سواء من اليمين أو اليسار.
إنّ اليساريين عبر التاريخ السياسي التونسي كانوا حاضرين في كلّ المجالات وكانوا سندا لكلّ الحركات، ولكنهم عجزوا عن خلق إطار هيكلي قادر على جعل حالة اليسار حالة تاريخية قابلة للإنجاز، لذلك يمكننا القول إنّ التاريخ التونسي عرف يساريين دون يسار.
تعليقك
Commentaires