ليلة القبض على ما تبقّى من الشعب
كانت ليلة مشؤومة.. ليلة عشنا فيها تجربة قاسية، تجربة الارتماء في مستنقع ظلّت مياهه الآسنة تتعفّن سنة بعد أخرى ويوما بعد آخر.. ونحن نسعى إلى قبوله في مشهدنا السياسي والاجتماعي ولا نحرّك إصبعا.. فإذا بهذا المستنقع قد فاح بمياه نتنة اقتلعت أنوفنا وفقأت أعيننا حتى نواجه الحقيقة البائسة التي صرنا إليها.
ليلة اربعاء مشؤومة أمضيتها..وعانيت فيها أرقا ممتزجا بالغضب والحزن واليأس.. فإذا بي أشبه المتنبي في قوله: على قلق كأنّ الريح تحتي... أوجّهها جنوبا أو شمالا.. وإذا بالانهزام يتسلّل عروقي .. وإذا بي أنظر إلى بلدي وأهلي كأنّني لست منهم وليسوا منّي.. وإذا بي أدرك وأعي أنّ مسافة و أحزمة من المبادئ والقيم تفصلني عن أرضي وتمنعني حتى على الاحتجاج أو الأنين..
فهل هي خيبة أمل؟؟ ليس بالضبط، فنحن نمتلك من الفطنة والدراية ما يجعلنا نعي مدى الفساد الذي يلمّنا لمًّا.. وإن كان الأمر كذلك فلم كلّ هذا الحزن والإحباط؟؟ والسبب بسيط لأنّنا كنّا دائما نعمل على اجتناب هذه الصورة القبيحة لفساد يتعاظم يوما بعد آخر.. لأنّنا كنّا نتسم بالسذاجة عندما أوكلنا غيرنا مسؤولية محاربة الفساد واكتفينا بالنقد أو قل " بالتنبير" .. ولأنّنا خلنا للحظات أنّ خطوطا حمراء مرسومة في حضارة 3000 سنة لا يمكن لأيّ شخص أن يتجاوزها.. وكم كنّا بُلْها وسذّجا؟؟؟ وكم تملّك بنا الغرور فصدّقنا ذلك الثناء القادم إلينا من وراء البحار، فرقصنا وتغنّينا بثورة لم يأت بمثلها أيّ شعب على هذه الأرض، ثورة بيضاء لها من القدرة على مواجهة التحديات مهما كانت أصنافها.. لكن، وبقدرة قادر أدركنا ليلة الأربعاء الماضي أنّ اعتقادنا وهم و سراب.. وأنّ الله لم يرسل إلينا ملائكة لتحفّنا وإنّما أحاط بنا شياطين وابالسة تغذّوا من دمائنا وتعاظموا بفضل مكتسبات استأمننا عليها أباؤنا..
أشبعوك أيّها الشعب إطراء: قالوا لك إنّك " أقوى شعب في العالم".. لأنّك تلاحظ وتتكلّم وتدين كلّ اعوجاج.. وأنّك الناضج الخلوق ولست بالناكر للجميل.. لأنّك وقفت في الجنائز نائحا.. و كلّما تفطّنوا إلى تخوّفك من مستقبل مريب قالوا لك " لا تخش شيئا فأمورنا إلى انفراج".. وقالوا لك " لست بالمخادِع ولن تخدَعَ" استئناسا بالقولة الشهيرة " لستُ بالخِبِّ، ولا الخِبُّ يَخدعُني".. فإذا بعقدة الانخداع تصيبك وتلهيك عن حاضرك.. وإذا بالخيط الرفيع الذي يربطك بواقعك يتلاشى ليتركك في مهبّ رياح الفساد تتقاذفك وأنت لا تدري، لأنّك منتشي بما أوهموك من خصال..
وفي خضمّ هذا الملهى العفن يتوقّف الزمن لحظة في ليلة من ليالي الزفاف الانتخابي لتدرك أيّها الشعب، وأنا منك، أنّنا نعيش أوهاما ، وأنّ بيننا وبين الإصلاحات بحارا ومحيطات.. وأدركنا أنّ أيدينا موثقة بالديون وقد تكدّس عليها أطنان من الفساد.. بل حتى الصراخ غاص في حلوقنا.
لقائل أن يقول لم كلّ هذا الإحباط؟ فتونس بخير.. وأجيبه تلك ذريعة العاجز.. وتلك هي الحقيقة.. فتونس وشعبها البسيط رهينة ولا أعتقد أنّنا سنتحرّر يوما من مغتصبينا ما دمنا " نغطي في الشمس بعين الغربال" وما دمنا نسلك نفس سياسة النعامة:
شاهدنا على قناة الحوار شريطا سينمائيا شبيها بأفلام المافيا.. طائرة هيليكوبتر تحلّق في سماء سان تروبيز St Tropez.. ونزول في أرض شاسعة.. قيل لنا هي على ملك أحد أذرع العصابة التي تخنقنا منذ 2013.. وترجّل مالك لقناة تونسية خاصّة مرفوقا بتحية قائد الطائرة، وكأننا في رفقة رسول الإعلام الذي سيخلع أبواب الشرّ المافيوزي خلعا .. ليُستقبل بالترحاب من طرف ألكابوني تونس نفسه.. لندخل " بسلام " عقر داره وقد أحاط به الترف من كلّ وجه..
تشويق لا يضاهيه تشويق غيره.. وإذا بنا نُرمى في أتون الفساد رميا.. دون تمهيد أو تحضير.. وإذا بنا أبطال أكرهوا إكراها على لعب دور الكمبرس figurants ... لأعيننا الحرية في التنقّل بين أرجاء غرفة .. ولآذاننا الحرية أيضا في نقل ما يصلها من ضجيج الكلام إلى أذهاننا فتسجّل تراشقا وسبابا..أوهمنا محاور الكابوني بصمته أنّها جديرة بالاستماع للاعتبار..
عشنا مشاهد إشهارية لأحد أفلام المافيا ، لكن حذار هو فيلم على طريقة المافيا التونسية وما أدراك.. وهو إفّاح تونسي يزيد مثل هذا الصنف حرارة، والجميع يعلم أنّ أفلام المافيا تتصف بالتشويق لما تتميّز به من سعي إلى كشف المستور وإخراج الخفيّ من الأحداث.. لذلك خلت نفسي أنّي أتابع فيلما من نوع The Godfather أو Le Parrain أو le Malavita أو Les infiltrés" لا يمثّل".. لكن مع قليل من الاختلاف، فلم اعد متفرّجة وإنّما مثل بقية أفراد شعبي معتدى علينا ومفعول بنا.. وأدركت وأنا أستمع إلى الحوار أنّني في حضرة بينوكيو وقد لبس ثوب ألكابوني .. مثلما أدركت أنّ تونس بشعبها في نظر هذا الشخص ومن خالطهم واتهمهم لا تتجاوز كونها لعبة..
كابوس لفّني منذ تلك الليلة لفّا، ولا أدري إن كان سينقشع عنّي أم لا.. وكرهت ليلتها وضعنا مثلما نقمت على الثورة التي أثمرت مثل هؤلاء السياسيين الذين تسلّقوا أظهرنا و نصّبوا أنفسهم أولياء علينا يجتمعون ويسطّرون مصيرنا ويملونا علينا طريقنا.. وغاب عنهم أنّهم أشبه بصعاليك لكن بغير المفهوم الجاهلي لأنّ صعاليك الجاهلية أنبل من هؤلاء ، فهم أصحاب مبادئ .. أمّا هؤلاء فلصوص سرقوا أحلامنا وطموحنا ومبادئنا ، وصاروا أشبه بأبي الفتح الاسكندري الذي نعت نفسه في مقامات الهمذاني بابن قلاوون في كلّ مكان يكون.. وما أكثر أمثاله في بلادنا اليوم؟؟؟ والغريب أنّهم تصدّروا المشهد الإعلامي بفضل زعماء المافيا الإعلامية.. وعجبي كيف تقف هيئة الاتصال السمعي والبصري عاجزة عن حماية التونسي البسيط الأعزل..
فهل أقول لهؤلاء : سئمنا منكم؟ إنّكم لتعلمون ذلك عين اليقين.. وهل أقول لهم: افرنقعوا عنّا ؟ ولن تفعلوا.. لأنّكم أوقدتم نارا وجعلتم وقودها تونس..
لذلك أقول لأبناء وطني: علينا لمّ شتات ما تبقّى لنا من حياة.. فقد أكلوا غذاءنا وشربوا ماء حياتنا.. وهاهم الآن يتخاصمون على ما تبقّى منّا من أمل.. كفانا غباء وتواكلا.. لنواجه مصيرنا بأيدينا ولنتكلّم يوم 15 سبتمبر بصوت واحد وإن كان جريحا.. وعلينا تكميد جراحنا لوحدنا ودون " بنج" .. فرغم كلّ الخسائر مازال حاضرنا بأيدينا.. ولنحم أبناءنا من هذا الأخطبوط المتعجرف..
تعليقك
Commentaires