مخابرنا بصدد الاعداد لأخطر عملية إرهابية في تاريخ تونس
اذا اعتبرنا أنّ الترويج لإرغام طفل صغير على تناول مواد كحولية واستهلاك التبغ، انحرافا أخلاقيا وحضاريا وسلوكا اجراميا يستوجب القراءة الاستثنائية، فانّ النظر الى مقتل 14 رضيعا في مستشفى الولادات بالرابطة والكشف عن معسكر يتم فيه استغلال الأطفال في الرقاب من ولاية سيدي بوزيد والكشف عن تورّط مدرّس في استغلال عشرين تلميذا استغلالا جنسيا، وما خفي كان أعظم، إضافة الى ما يتعرّض له الأطفال من قصف يومي في التلفزة والقسم والشارع مع انسداد الأفق نتيجة الوضع التربوي بمعنى نتيجة وضع المؤسسة التربوية راهنا التي دخلت مسارات الانهيار القيمي والحضاري من خلال برامجها ومكوّناتها وبنيتها التحتية وظروفها...
إذا وضعنا أمام أعيننا في لوحة التحكّم، فإنّه يمكننا أن نطرح فرضية أنّ هناك عملية استهداف للطفولة في تونس؟ ولكن ما الذي يدعم هذه الفرضية؟ يمكننا البرهنة بالخلف من خلال طرح سؤال لماذا يتم استهداف الأطفال والطفولة وما الغاية من ذلك ومن له المصلحة في عملية الاستهداف؟
إنّ القراءة الأخلاقية سواء التي تتجلّى من خلال مجموع القيم الآمرة والناهية أو التي تتجلّى من خلال مجالات ممارسة أخرى يمكن أن تجعل استيعاب أو تصديق عملية الاستهداف أمرا عسيرا، الاّ أنّ القراءة السياسية والفكرية والتاريخية... يمكن أن توفّر الشروط الموضوعية لإمكانية تأكيد الفرضية والكشف عن صاحب المصلحة.
لتأكيد تلك الفرضية يمكننا دعم ذلك بسؤال، من هو التونسي الذي نريد بعد ثلاثين سنة؟
سياسيا، ليس جميع التصوّرات السياسية معنية بالإجابة عن هذا السؤال، إذ يمكننا أن نقول إنّ الأحزاب الحاملة لمشروع فكري وايديولوجي هي فقط التي تعمل على الإجابة عن هذا السؤال، وبناء نموذج للإنسان التونسي الذي تريده، وعند تحديد ملامحه فانّه يتمّ توفير شروط بنائه من خلال البرامج التعليمية والقيم التي يتم زرعها فيه ومن خلال تشكيل وعيه ومن خلال صناعته داخل مخابر تأخذ عناوين شتّى، وبالتالي يتم تشكيل مادته الأولية الذهنية حتى يكون جاهزا ككيان وهوية تأخذ مكانها بعد ثلاثين عاما أو حتّى أقل من ذلك.
التيارات السياسية المعنية بهذا المشروع هي تيارات الأيديولوجيا التي لها تصوّر للسياسة والمجتمع والقيم والاقتصاد... وهي تيارات تقليدية يمثلها الليبراليون والاسلاميون واليساريون والقوميون، ولكنها في النهاية لا تخرج عن إطار مشروعين كبيرين للإنسان، مشروع يعتبر أنّ الانسان والمجتمع مرتبط بقوى خارقة خارجة عن الطبيعة وهو في خدمتها لأنّه سيعود اليه وسيمرّ بآليات المحاسبة والمكافأة... وتصوّر آخر يعتبر أنّ الدولة هي جهاز لإدارة شأن المجتمع وبنائه وأنّ المجتمع هو نتاج قوانين موضوعية لا تخرج عن اطار الانسان وليست لها علاقة مع أي قوّة خارجة عنه أو خارجة عن الطبيعة.
اذن نحن أمام مشروعين الأوّل ماورائي وهو غير وضعي والثاني مجتمعي وضعي وفقا تصنيفات هانس كلسن Hans Kelsen، لكلّ منهما رؤيته للدولة وللمجتمع وللوجود وبالتالي للإنسان، فنحن أمام مقاربة تشكّل الوجودي ثمّ المعرفي الابستيمولوجي ثم الأكسيولوجي وتحديدا السياسة والأخلاق.
لكلّ منهما انسانه، المشروع الوضعي يعتبر أنّ الانسان الذي يجب أن يكون هو الذي يعتمد على القوى الذاتية المادية وهو انسان عقلاني سواء في حركته الفردانية أو في حركته المجتمعية وهو انسان يتأسّس من خلال مجالات العلم والعقلانية والمادية والتاريخ وليس كائنا ما ورائيا أو كائنا ثبوتيا أي يربط مصيره بمجالات الثبات واللاتغيير. أمّا انسان المقاربة غير الوضعية فهو فرد يستمدّ وجوده من قوى غير مادية وهو فرد عنصر ضمن رؤية بنيوية، اذ لا يمكنه الوجود أو البقاء دون أن يكون مرتبطا ببقية العناصر، بمعنى أنّ وجوده ليس له من معنى ان لم يكن في علاقة ببقية العناصر والمجالات، ويتأسّس هذا الانسان على الخضوع والخنوع والغيبي فهو في خدمة القوة الخالقة التي لها من يمثّلها على الأرض في السياسة والأخلاق والدين والاقتصاد وهو بهذا المعنى ملزم بالخضوع لمن هو ممثل لتلك القوّة.
إنّنا أمام مشروعين للإنسان التونسي بعد ثلاثين عاما، ولكلّ مشروع مقوّمات بناء ذلك الانسان.
عندما نبحث ضمن السياق الراهن على من سيكون بعد ثلاثين عاما أو خمسين عاما محدّدا في المعادلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية فإنّنا نجده الطفل الذي نحن بصدده اليوم.
الطفل الذي تعترضه الأمراض والأوبئة والجراثيم ومخاطر الموت عند ولادته.
ثمّ ينشأ ضمن مناخات الفقر والجريمة باعتبار تخلّي الدولة عن أي دور يمكن أن تقوم به لفائدة الأسرة – نظام الضمان الاجتماعي يعطي للعائلة سبعة دنانير عن الطفل الواحد على مدى ثلاثة أشهر أي في حدود الدينارين عن الشهر الواحد، أليست إهانة-
ثم يجد الطفل نفسه في رياض مخصّصة للأطفال يتعرّض فيها الى شتّى أنواع التنكيل والتدمير النفسي والقيمي لأسباب متعدّدة منها البيداغوجي ومنها الاقتصادي ومنها الاجتماعي، اذ كثيرا من رياض الأطفال تشغّل غير المختصين ولا تتوفر بها المرافق الدنيا لتربية طفل وتنشئته.
وفي نفس الاتجاه يجد أطفال أنفسهم وسط فضاءات تسمّى بالمدارس القرآنية حيث يتم تعليمهم كلّ شيء غير القرآن ويتمّ تعليمهم خاصة كيف يتم الغاء الآخر المختلف عنه، فالاختلاف كفر وارتداد موجب للإلغاء.
بعد سنّ السادسة يدخل الطفل عوالم المدرسة حيث تعتبر البرامج المدرسية في تونس الأسوأ عالميا فهي لا تشجّع على العقل والعلم والمعرفة بل تغرس في الطفل روح الهزيمة وعدم المسؤولية والتفسير الغيبي اللامادي للظواهر المادية والاستهلاك غير العاقل لمجالات المعرفية العلمية وخاصة انعدام المقاربات النقدية التي يمكن أن تربي الطفل على القبول بالآخر وعلى الديمقراطية وعلى العلم والرقي بالمجتمع وبالإنسان عموما، فالمدرسة التونسية تقتلع الطفل من الانسان، فهي تعتبره فقط تونسي عربي مسلم، لا غير، بمعنى أنّ حلقة الانسان تقتلعها منه وتقتلها، لذلك ينشأ على اعتبار غير العربي وغير المسلم هو الآخر الواجب الغاؤه.
مسارات الطفل تتشكّل الى أن يصبح مراهقا ثمّ شابا، فتبدأ الأفق تنسدّ أمامه ويصبح مصيره مجهولا فتنغرس فيه روح العدمية والعبثية لذلك يبدأ بالبحث عن الحلول الفردية فإمّا خوض مغامرة الموت في زوارق البحر الطامعة في أوروبا أو متورّطا مع مجموعات إرهابية متاجرة بالدين والانسان أو وسط مناخات الفقر والتهميش وانسداد الأفق، خاصة وأنّ انسانا آخر أمام عينيه نشأ لدى عائلات تعدّ بالعشرات لا غير توفّرت لها الإمكانيات لنحت أبنائها ضمن مدارس وجامعات بعيدة عن مدارس الشعب وجامعاته العمومية حيث تتم هناك صناعة انسان قابل للموت لا غير.
هذا الانسان الناشئ من ركام خطر الجراثيم والأوبئة وامكانيات الموت المتوفّرة بيسر في المستشفيات والناشئ في محاضن ورياض أطفال ومدارس قرآنية خارجة عن التاريخ والناشئ ضمن مدارس وجامعات لا معنى للعقل والنقد فيها والناشئ وسط مناخات ابستيمية تفسّر المادي بالغيبي وتعتبر أّنّ المجتمع في حركته انما هو خاضع فقط لماهو غير مادي وناشئ وسط فضاءات اجتماعية مغلقة وعنصرية وتمييزية وطبقية وغيبية ووسط مقوّمات اقتصادية غير مكتملة ودولة طبقية في خدمة أقلية على حساب الأغلبية الشعبية ومصالح عمومية غائبة عن الخدمة وآفاق مسدودة. هذا الانسان الناشئ وسط كلّ تلك المكوّنات هو انسان غير قابل للعلم والعقل وغير قادر على البناء وهو انسان خارج التفسير والفهم، هو انسان تجري صناعته وسط مخابر المقاربات غير الوضعية التي انغمست وسط أجهزة الدولة ومؤسساتها خاصة التربوية والصحية والإعلامية، إنّ انسانا تونسيا في أفق ثلاثين سنة أو خمسين سنة قادمة سيكون اذا تواصلت عملية الصناعة الجارية حالية، انسانا قاتلا ومقتولا منعدما شحيحا في الوجود والمعرفة. إنها عملية تدمير ممنهجة وهي أخطر عملية إرهابية تعرفها تونس على مدى تاريخها.
تعليقك
Commentaires