وأخيرا هل فهم سكّان المعبد أنّهم ليسوا بالفرقة الناجية؟
تحوّل جوهريّ نرقبه هذه الأيام في تنظيم الإخوان.. وهو في اعتقادنا يضرب أهمّ مبدإ عليه تقوم العلاقة بين المرشد والقاعدة، وبين القيادات سواء في مجلس الشورى أو غيرهم من سكان المعبد. هذا المبدأ تلخّصه عبارة "السمع والطاعة " وتعدّ شرطا لازما لبقاء الفرد المخونج. ورد في نصّ البيعة " أعاهد الله العظيم على التمسك بأحكام الإسلام والجهاد في سبيله والقيام بشروط عضوية جماعة الإخوان المسلمين وواجباتها ، والسمع والطاعة لقيادتها في المنشط والمكره في غير معصية ما استطعت إلى ذلك سبيلا وأبايع على ذلك والله على ما أقول وكيل."فأهمّ مبدإ يقوم عليه الانتماء الإخواني هو الطاعة والالتزام.. ولذلك تجد عبارة " أنا ملتزم" بمثابة المفتاح السحري الذي يفتح في وجه قائله جميع الأبواب الإخوانية الموصدة .
لذلك نقول ، إنّه ليس من السهل أن يخرج الإخوان على بعضهم بعضا، وخاصّة أن تخرج انشقاقاتهم إلى العلن، وتصير حديث القريب والمخالف العدوّ. وحتما، هناك عوامل خارجية تظافرت حتى دفعت بالقاعدة الانتخابية إلى الانتفاضة، أو قل التململ.
وفي رأيي، وأنا في هذا السياق أقدّم قراءة لوضع أبناء المعبد وهم على أبواب استحقاقات انتخابية تختلف عن غيرها، نظرا لتنزّلها في سياق إعلامي يغاير السياق الإعلامي في 2011 أو في 2014، من شبه إجماع في نتائج سبر الآراء يؤكّد تآكل الجسم الانتخابي للنهضة؛ ولا تغرّنا نتيجة بلديات باردو، والشمروخ الذي أطلقوه مهلّلين بالانتصار، لأنّ كتلة الإخوان متيقظة ، تجيب بالحضور في كلّ مناسبة ولا يتخلّف منها سوى من أصيب بأمر جلل. وعلى هذا الأساس صار جليا أنّ حضور الإخوان في باردو لن يتجاوز 1500 خوانجيا، وهذا لعمري ينبئ بفشل قادم.
ولا يفوتنا أيضا التذكير أنّ النهضة اجتهدت في التطوّر ودخلت سوق الحداثة وقراءة الوضع التونسي بعين حرفيين من مؤسسة إعلامية أجنبية تكلّفها ماء العين. وبدأنا نرصد إنجازات هذه المؤسسة على أرض الواقع سواء في كيفية لباس الغنوشي، أو في وقوفه في المطبخ يتصفّح جريدة ويرنو إلى حديقة خضراء معشّبة...أو حتى في طريقة خروجه إلى الناس.. ولعلّ من أوكد المهامّ التي تعود بالنظر إلى هذه المؤسسة هي البحث عن سبيل لتلميع صورة الغنوشي وبالتالي صورة النهضة حتى يكون هو وتنظيمه في مستوى الأحداث ويبرهن فعلا أنّه أفضل رسول لنشر " الإسلام الديمقراطي" حلم العم سام الذي يقضّ مضجعه ويحرص على أن يجرّبه في تونس لتكون مثالا يقتدى بالنسبة إلى بقية الدول العربية.
أعتقد أنّه في هذه النقطة بالذات يكمن بيت الداء، لأنّنا نقف على تجربة فريدة يقوم بها الإخوان ، أصحاب الدعوة إلى تأسيس الخلافة والالتزام بالشريعة وفي نفس الوقت مقاربة المجتمع بآليات حديثة من بدع العلمانية، ويبدو أنّ اللعبة راقت للغنوشي وجماعته، ولم يدركوا أنّ لها نتائج سلبية وتعود بالوبال على المعبد وساكنيه. وأوضّح:
- فتسليط آليات معاصرة وحديثة على عقول تنتمي إلى الزمن الغابر لن يؤول إلاّ إلى خراب. وأقف في هذه النقطة عند مسألة الانتخابات التحضيرية أو كما يحلو لهم تسميتها بالتمهيدية . وكم تباهى الإخوان والأخوات بهذه المبادرة فاعتبرت إحداهنّ أنّ التنظيم عاش " لمدة ثلاث أسابيع ديمقراطية داخلية في تصعيد مرشحيها للانتخابات التشريعية ، وأن في ذلك تكريسا للشفافية ومنع لأساليب التحيّل ودمقرطة التصعيد لمفاهيم النهضة ". وهذه تجربة انفرد بها إخوان تونس دون غيرهم من الأحزاب.
- لكن، ما لم يكن في الحسبان أنّ لدمقرطة المسار الانتخابي نتائج قد تتضارب مع مبادئ إخوانية ظلّت مكبوتة في ضمائر الخوانجية، ووأدوها أملا في بعثها عندما تستطيب لهم الأمور. لم تدرك المؤسسة الأجنبية التي وضعت خارطة الطريق إلى الانتخابات أنّها تتعامل مع عقول كبّلها فكر قائم على " أعضاء عاملين في الشعبة يكوّنون أسرة بحيث لا يزيد عدد الأسرة عن خمسة يختار أحدهم نقيبا لها" المادة 9 من القانون الداخلي للتنظيم .وجميعهم يمثلون الأسرة بمفهومها العام وهم بمثابة وحدة متكاملة متضامنة . المادة 10. وفي هذه النقطة بالذات وقع الإخوان في المخاتلة التي كرّسوها لتبييض صورتهم، فمن حيث سلكوا سبيل المرواغة في توظيف مفاهيم حديثة دخيلة على فكرهم لإيهام الغرب بأنّهم تغيّروا كبّلت هذه المفاهيم أيديهم بنتيجة اختياراتهم، أرادوا أن يذهبوا بالانتخابات أشواطا بعيدة فإذا بهم يتحمّلون نتائجها، صعد غرباء وأقصي زعماء مناصرون للمُلّا الأكبر: أقصي المقرّبون من الشيخ مثل عبد الكريم الهاروني وتدحرج في تونس 2 إلى المرتبة الرابعة، واحتلت الزغلامي في تونس 1 المرتبة التاسعة ، وتصدرت قائمتها امرأة عادية ، تكاد تكون مغمورة ، وانحدر عتيق في أريانة إلى المرتبة الثامنة، وخسر عماد الخميري الرهان بمنوبة .. في كلمة واحدة إنّه التسونامي الإخواني الذي أربك الغنوشي والمقرّبين من الكرسي.. وإذا بهم يدركون أنّ المسافة شاسعة بين القياديين والقاعدة التابعة، وإذا بالعبد يتمرّد على وليّ أمره.
- كان لزاما على الغنوشي والعائلة الحاكمة أن تصدر صفّارة النذير، وأن يذكّرهم أنّ ما تقوم به المؤسسة لعبة سياسية تستهوي الآخر والغرب، وأنّ يمين البيعة قسم مقدّس والإخلال به كفر وزيغ.. وباختصار شديد أراد الغنوشي أن يسترجع سلطته باعتباره ولي أمر الجماعة.. وعزم على إعادة ترتيب الأوراق معتبرا من تمّ اختيارهم بيادق لا يحق لها أن تغضب وأنّه الأعلم بمصلحة الجماعة ومصلحة التنظيم: فوضع الهاروني رئيس قائمة على تونس 2، وأشار على الجلاصي بالانتقال الى نابل وهو ما رفضه أيضا. وحوّل الخميري من منهزم إلى رئيس قائمة، واختار لسيدي بوزيد الجمالي رئيسا لقائمتها. ورمى بمحمد بن سالم في غياهب النسيان..
- تساؤل أخير يقتضي منّا النظر: هل إنّ الفئة المختارة في هذه الانتخابات هي من طائفة المعتدلين؟ أم من السلفيين؟ وأعتقد أنّ طبيعة الإجابة تجيب عن بعض من الأسباب الكامنة وراء انتفاضة القاعدة الانتخابية للنهضة؛ ولا تغرّنّكم هذه الكتلة من النساء والشباب المنتخبين، فكم كانت المرأة أشدّ تطرّفا من الرجل، وكذا الشأن بالنسبة إلى الشباب . ثمّ لا ننسى أنّ تشريك المرأة في التنظيم لا يتجاوز حدود اشتراكها في الحياة السياسية التي تأتمر فيها بأوامر أهل الحلّ والعقد من القياديين. ولهذا لم يتحرّج الغنوشي عندما تنازل وانقاد إلى نصائح الشركة التي تعاقد معها في تنميق القائمات بأوجه من النسوة يحقّ عليهنّ ما يضمره أتباع النهضة في اعتبارهنّ " متبرّجات" و " سافرات" ؛ ولا ضير فالمقولة السائرة تقول: كوني جميلة واصمتي..
نقطة أخيرة، النهضة في أسوإ حالاتها، لأنّ الغنوشي توهّم أنّه بحقّ وليّ أمر: حدّثنا عن الديمقراطية والتوافق... وهو في أوج قهره لأتباعه.. وعدهم بالغنائم فإذا بها توزّع على المقرّبين وإذا بهم هم من أهل الصفّة.. فانحلّ جسم التنظيم ونخره الانتهازيون والانتهازيات والأتباع ينظرون.. وشعر أنّ ساعة الحقّ قريبة وعليه أن يستنصر لنفسه وللمقرّبين منه فكان البديل " رئاسة قائمة بتونس 1" عسى أن يمسك بقشّة قد تفتح له عرش مجلس البرلمان فيمكنه عندئذ المحافظة على الدستور وحمايته من كلّ محاولة في تغيير قد يقضي على الحضور الإخواني بتونس قضاء لا رجعة فيه.
تعليقك
Commentaires