سامي الفهري ضحيّة التلاعب بالسلطة القضائيّة !
تسع سنوات بعد الثورة خُيّل لنا فيها أنّنا حقّقنا مكسب حريّة التعبير وأنّ يد الظلم وتكميم الأفواه قد أُزيحت نهائيا، واعتقد البعض أنّ مؤسّسات الدّولة باتت تتمتّع باستقلاليّة تامّة دون التدخّل فيها وتسييرها. هذه كانت أضغاث أحلام ولم تخرج تونس من دائرة الضغط والتهديد وامتداد يد الغدر والظلام من قبل أطراف نافذة في البلاد لها القدرة على الحصول على ما تريد بأيّ وسيلة حتى وإن وصل بها الأمر إلى الإغتيال.
أصبح المواطن التونسي يُشكّك في نزاهة ومصداقيّة كلّ مؤسسات الدولة تقريبا دون استثناء، نظرا إلى استفحال الفساد وتغلغله في مفاصل كلّ الهيئات والمؤسّسات. انتشرت المتاجرة بالدين للتغلغل في المشهد السياسي، واستعملت السياسة للتأثير على الإعلام وتهديده وإن لزم تكميم الأفواه، حتى أنّ أهم مؤسّسات الدّولة التي ينبغي أن تكون مستقلّة ومحايدة عن كلّ التجاذبات والصراعات يبدو انها باتت جزء متورّطا في الأجندات السياسيّة وهي المؤسّسة القضائيّة.
قضيّة الإعلامي وصاحب قناة الحوار التونسي سامي الفهري أكبر دليل على محاولات التلاعب والمسّ من مصداقيّة الأجهزة القضائيّة. حين يتمّ خرق القوانين والوقوف دون تطبيق القرارات القضائيّة يعدّ ذلك تعدّي صارخ على مؤسّسات الدّولة وهيبة القضاء. التاريخ يعيد نفسه مرّتيْن ويعود سامي الفهري ضحيّة التلاعب بالسلطة القضائيّة من قبل أطراف خفيّة لها مصلحة شخصيّة بإيقاف الفهري والتشفّي منه، خاصّة وأنّ قناته الأكبر نسبة مشاهدة من بين باقي القنوات تبثّ برامج سياسيّة لا تعجب الكثيرين الذين لا يقبلون من ينتقدهم.
يوم السبت 25 أوت 2012، تمّ إيقاف سامي الفهري بموجب بطاقة إيداع صادرة عن دائرة الاتهام بمحكمة الإستئناف بتونس، في إطار القضية التي تعهّد بها عميد قضاة التحقيق بخصوص التجاوزات الحاصلة بالتلفزة الوطنية التونسية وتتعلّق بالعقود الإشهاريّة التي أبرمتها مؤسّسة ''كاكتيس'' مع التلفزة الوطنيّة منذ سنة 2003. كانت هذه تهمة عمد إليها الطرف الحكومي آنذاك لتوريط الفهري بسبب عدم طاعته لأوامرهم وإيقاف بثّ أحد برامجه التلفزيّة الساخرة التي يتمّ فيها تقليد السياسيّين دون استثناء زمن حكومة حمادي الجبالي وهو برنامج ''اللّوجيك السياسي''. سامي الفهري صرّح قبل سجنه أنّ أسباب إصدار بطاقة إيداع بالسجّن في حقّه تعود إلى بثّ قناته برنامج "اللوجيك السياسي" الساخر ويتضمن البرنامج فقرة "القلابس" وهي دمى متحركة ترقص وتغني وتجسم شخصيات حكومية وسياسية تونسية شهيرة مثل راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة.كما أكّد أنّ لطفي زيتون عضو حركة النهضة والمستشار السياسي لرئيس الحكومة آنذاك، اتصل به شخصيا وطلب منه إيقاف البرنامج واعتبر أنّ قرار إيقافه هو قرار سياسي. يوم 28 نوفمبر 2012، نقضت محكمة التعقيب قرار دائرة الإتّهام المتعلّق بسجن الفهري ودعت إلى الإفراج عنه في مناسبتيْن، لكنّ النيابة العمومية رفضت ذلك بدعوى أن نقض قرار دائرة الاتهام لا يشمل بطاقة الإيداع بالسجن بل يهم فقط أصل القضية. ووفقا للقاضي المتقاعد بمحكمة التعقيب محمود بن مبروك الجعيدي، فإنّ وزير العدل النهضاوي آنذاك، نورالدّين البحيري، كانت له يد مباشرة في مواصلة سجن الفهري وعدم تنفيذ قرار محكمة التعقيب نظرا لشغور خطّة وكيل الدولة العام والذي كان هو المؤهّل لها ولكنّ البحيري لم يرضى بذلك. واتّهم عبد العزيز الصيد محامي سامي الفهري وزارة العدل بالتدخل في القضاء "للتأثير عليه"، مؤكدا أن هناك "محاولة للنيل" من موكّله لأسباب تتعلق بالانتقادات التي توجهها قناة "الحوار التونسي" للحكومة التي تقودها حركة النهضة. وتمّ الإفراج عنه بعد أكثر من سنة من سجنه.
وبعد مرور ستّ سنوات منذ خروجه من السجن، ظلّت قناة الحوار التونسي تتصدر نسب المشاهدة بسبب مختلف برامجها وخاصّة السياسيّة. وبعد صدور قرار تحجير السّفر على سامي الفهري وزوجته من قبل القطب القضائي المالي و الاقتصادي يوم 29 أكتوبر 2019، على خلفيّة شكوى مقدّمة من وزارة المالية بسبب سوء إدارة الممتلكات المصادرة من قبل الفهري، بما في ذلك شركة Cactus Prod وغيرها من الشركات، وبمجرّد إقدام قناة الحوار التونسي على بث فيديو قصير ترويجي عبر صفحاتها في مواقع التواصل الإجتماعي يوم 29 أكتوبر، بيّنت فيه أنّ سامي الفهري قام بتحقيقات استقصائيّة وستُنشر قريبا تحت عنوان ''كشف أسرار حركة النهضة''، عاد الفهري إلى مربّع التحقيقات والملاحقة من قبل السلطات. واتهم القيادي بحركة النهضة سمير ديلو، سامي الفهري بإعلان الحرب على حركة النهضة في الآونة الأخيرة ظنّا منه أنه مستهدف من طرفها ونفى أن تكون للنهضة علاقة بالقرار القضائي المتمثّل في تحجير السفر عن الفهري وزوجته، معتبرا ذلك اتهاما للقضاء التونسي وتشكيكا في استقلاليته. أيضا وجّهت النهضة برقيّة تهديد للفهري وأعلمته أنها ستلجأ في صورة إصراره على بث أو إعادة ما وصفته بهذا النوع من البرامج أو اللقطات الاشهارية، إلى التقاضي الجزائي والمدني وتحميله وتحميل قناة الحوار التونسي كل المسؤولية الجزائية والمطالبة بالتعويضات المدنية الكاملة عن كلّ نشر لإشاعة في حقها أو سعي لتشويه صورتها، وتمّ بعدها حذف الفيديو الترويجي لكشف أسرار حركة النهضة ولم يتمّ بثها أبدا.
مثل سامي الفهري يوم 4 نوفمبر 2019، أمام المحكمة الابتدائية بتونس، وتمّ تأجيل قضيته إلى 26 ديسمبر بسبب وثائق منقوصة من ملفّه القضائي وفق ما علمت به بيزنس نيوز. وتمّ الإحتفاظ بسامي الفهري يوم 5 نوفمبر، رفقة المتصرّفة القضائيّة وكذلك وكيل الشركة، لمدّة خمسة أيام. وبعد 13 ساعة من التحقيق المتواصل في الليلة الفاصلة بين 5 و 6 نوفمبر 2019 معه في ظروف سيّئة، تمّت مداهمة منزله حيث لا يوجد سوى ابنتيه القاصرتين، ومقر القناة ومقر شركة الإنتاج prod وفق ما أكّده محامي الفهري عبد العزيز الصيد الذي وصف الحادثة بأنها خارج المسار القضائي دون قضية منشورة أو قاضي تحقيق مكلف بالملف واعتبر أنّ المداهمات قد تكون للبحث عن الشريط الوثائقي الذي يكشف مصادر تمويل الحركة الاسلامية، وهي الفرضية التي يشترك فيها محامي الفهري مع العديد من المحللين. وقرّرت النيابة العمومية يوم 10 نوفمبر 2019، الاحتفاظ بسامي الفهري والمتصرّفة القضائية في شركة "كاكتيس" والوكيل لقناة الحوار التونسي لمدّة 5 أيام إضافية على ذمة التحقيق. وبقرار من قاضي التحقيق بالقطب القضائي والمالي يوم 15 نوفمبر تمّ إطلاق سراح كل من سامي الفهري صاحب قناة الحوار التونسي وكلّ المتهمين والإبقاء عليهم في حالة سراح.
وفي أقلّ من شهر، علمت بيزنس نيوز يوم 11 ديسمبر 2019، من الناطق الرسمي باسم محكمة الإستئناف بتونس الحبيب الطرخاني أنّه تمّ إصدار بطاقة إيداع بالسجن ضدّ سامي الفهري والمتصرفة القضائية لشركة كاكتيس والوكيل لقناة الحوار التونسي. بعد هذا القرار إختفى الفهري لمدّة وجيزة ظنّ فيها البعض أنّه خارج تراب الوطن، لينشر بعد ذلك تدوينة يوم 16 ديسمبر 2019 نفى فيها هروبه من تونس وأعلن أنه سيقضي ليلته بالسجن في اليوم الموالي، ومن جهته أكد محامي الفهري، عبد العزيز الصيد أن موكّله سيسلّم نفسه للسلطات بعد غياب بسبب وعكة صحية، وهو ملتزم باحترام القرارات القضائية مثلما فعل في السابق. وقام الفهري يوم الثلاثاء 17 ديسمبر 2019، بتسليم نفسه للسلطات ومثل أمام محكمة الاستئناف بتونس.
ومرّة أخرى يقع القضاء التونسي في الخطأ من جديد، فبعد أن قرّرت محكمة التعقيب يوم الأربعاء 29 جانفي 2020، إطلاق سراح الفهري، أبتْ النيابة العمومية تنفيذ القرار بسبب صدور بطاقة ثانية تقضي بالإبقاء على سجنه يوم 30 جانفي. واعتبر محامي الفهري، عبد العزيز الصيد أنّ هذا الإجراء غير قانوني وليس له أي سابقة وتمّ فيه تغييب حقّ الدفاع مستغربا اصدار قرارين متتالين بهذه السرعة مشددا أنه يملك أدلة ثابتة عن تعرض موكله للابتزاز. في مناسبة ثانية يتبيّن بالواضح والكاشف وجود أطراف تتلاعب وتتحكّم في السلط القضائيّة، إنّ قرار محكمة التعقيب الذي نقض قرار بطاقة الإيداع التي أصدرتها دائرة الإتهام ضد الفهري و من معه، يقتضي من وكيل الدولة العام أن يرسل بطاقة سراح إلى السجن للإفراج عن المتهم تطبيقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 273 من مجلّة الإجراءات الجزائية التي تعيد القضية إلى الحالة التي كانت عليها قبل بطاقة الإيداع التي وقع نقضها. خرق أحكام الفصل 273 من مجلّة الإجراءات الجزائية، وإعادة النظر في الملف من جديد في أقلّ من 24 ساعة يؤكّد بما لا يوحي للشكّ أنّ هناك قوى تقف وراء إيقاف سامي الفهري.
من الناحيّة الدستوريّة والقانونيّة، فإنّ ممثّل النيابة العموميّة مطالب بتطبيق قرار أعلى محكمة في البلاد، محكمة التعقيب، وتوجيه بطاقة سراح للمتّهم ولكن في حالة سامي الفهري لم يتمّ إحترام قرارات القضاء. وأكّد محامي الفهري، عبد العزيز الصيد أنّ محكمة التعقيب أرسلت برقيّة للوكيل العام بمحكمة الإستئناف بتونس وأعلمته بقرار الإفراج عن موكّله وطالبته بتنفيذ الحكم وتوجيه بطاقة سراح. الصيد أشار إلى أنّه حصل على نسخة من إعلام النيابة العموميّة بالإفراج من قبل الوكالة العامّة لمحكمة الإستئناف، وأفاد أنّه قابل الوكيل العام وسأله عن إن كانت وصلته برقية الإفراج فأعلمه أنّها وصلته ولكنّه لن يفرج عن موكّله ولم يرد أن يبوح له بالأسباب وقطع الحوار وأعلمه أنّه مضطر للخروج بسبب أسباب شخصيّة. والحال هنا أنّ الفهري أيضا لا يزال وراء القضبان بسبب أهواء بعض السياسيّين والذين لا يعجبهم الخطّ التحريري لقناة الحوار التونسي.
المرفق القضائي في قضيّة نبيل القروي وطريقة إيقافه، وفي قضيّة سامي الفهري أثبت وجود خرق صارخ للقانون. الفهري بعد قرار محكمة التعقيب يوم 29 جانفي 2020، كان من المفترض أن يتمّ الإفراج عنه وأن يخرج من السجن، ولكنّ النيابة العموميّة لم تحترم القانون ولم تتعامل بنزاهة مع قرار محكمة التعقيب وبالتالي فإنّ سامي الفهري أصبح محتجزا بدون موجب قانوني. ويعتبر هذا التعدّي الصارخ على القانون إنتهاكا لحقوق الإنسان وانتهاك للحقوق الجوهريّة للمتّهم واعتداء على حرمته الجسديّة، وفقا لتصريحات محاميه عبد العزيز الصيد. وفقا للصيد فقد تمّ تغيّيبه أثناء إصدار بطاقة الإيداع الثانية من قبل دائرة الإتّهام عدد 32 ضدّ الفهري والتي اجتمعت بسرعة البرق ولم يقع إعلامه بذلك، وأكّد أنّ لديه معلومات ودراية بتصرّفات وقعت ممارستها ضدّ الفهري من قبل أطراف معيّنة ولديه كلّ الأدلّة في ذلك وقال أنّ هناك كواليس في القضيّة لو أفصح عنها ''لحدث زلزال في تونس'' لأنّ سامي الفهري تعرّض للإبتزاز والتهديد.
بعد تصريحات محامي سامي الفهري ورفض النيابة العموميّة تنفيذ قرار محكمة التعقيب وهو تعدّ صارخ على القانون بات واضحا أنّ هناك أطراف تقف وراء سجن الفهري .. وربما هم نفس الأطراف الذين وجّهوا له التهديدات وقاموا بعملية إبتزازه وذلك بالأدلّة. قضيّة سامي الفهري أصبحت قضيّة رأي عام نظرا لإنتهاك حقوق الإنسان فيها وتوظيف المرفق القضائي والمسّ من نزاهته ومصداقيته وحياده.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires