تونس - عِصيان مدني يُحبك على نارٍ هادئة
حالة من الغضب والسّخط تسُود كافّة الجهات والمناطق الداخلية بولايات تونس، الكلّ استفاق من سُباته واقتنع بأنّ الحقوق تُفتكّ ولا تُهدى وكلّ ولاية إن لم يُدافع عنها سكّانها فإنّه لا نصيب لها من التنمية ولا من المشاريع وذلك من خلال تكريس ثقافة التظاهر والإعتصام التي أصبحت قُوت التونسيّين اليومي وتختلف طبيعة هذه الإحتجاجات من منطقة إلى أخرى من حيث أسلوب التظاهر ودرجة الإعتصام ومن حيث درجة المعاناة من الفقر والتأزّم في الوضع الإقتصادي والإجتماعي.
تغيّرت صورة تونس بعد ثورة الياسمين بالنسبة للبلدان الأجنبية والعربية التي باتت تنظر إليها بنظرة تونس أم الثورات العربية وتونس الربيع العربي ولكنّ صورة تونس الحقيقية يعلُمها فقط أهلُها وشعبها الذي ضحى بأرواح شبابه من أجل العيش بكرامة وفي أمن وأمان وفي دولة تحفظ حقوق الإنسان ولكن هيهات بين ما ثار لأجله الشعب الأبِي وبين ما حصدته ثورة الربيع العربي على امتداد تسع سنوات. ازدادت نِسب البطالة والفقر والتهميش والإنقطاع المبكر عن الدراسة وارتفع منسوب الجرائم وطال الإرهاب الغادر رجالات ونساء تونس وبُلينا بآفة إسمها الأحزاب السياسية التي لا شغل شاغل لها سوى المناصب والتناحُر من أجل كسب القوة والسلطة أمام غياب رؤية واضحة ومسار حقيقي صادق يُنقذ البلاد من الوضع الإجتماعي والإقتصادي المُتردي المتخبّطة فيه البلاد.
إنّها حربٌ باردة تعيشها ولايات تونس على نارٍ هادئة زادت شُعلتها لهيبا بعد أن تعمّد رئيس الحكومة هشام المشيشي إساءة التقدير ولم ينتبِه في انتقائه لكلماته حين أعلن أنّ الدولة وصلت إلى اتفاق نهائي مع ''دولة الكامور'' من ولاية تطاوين بعد صراع دام لمدّة ثلاث سنوات. المشيشي اعتبر أنّ ذلك الإتّفاق هو بمثابة انتصارٍ حقّقته حكومته ونجاح يُحسب لها بإعادة فتح صمامات الذهب الأسود ''الفانا'' وكأنّ تونس بها ولاية واحدة مُتناسيا وضعية ثلاث وعشرون ولاية أخرى تعيش حالة من الفقر والخصاصة على كلّ الأصعدة وبكلّ ولاية أيضا توجد ''فانا'' يتمّ غلقها في أيّ لحظة غضب. كلِمته نزلت كالبنزين على مسامع وقلوب أهالي الجهات واندلعت على خلفيتها وقفات احتجاجية طالت كلّ الولايات، القصرين انتفضت على خطى الكامور وتوجّه أهاليها إلى فانة حقل الدولاب النفطي لغلقها وهو ثاني حقل نفطي في تاريخ تونس بعد البرمة وقاموا بغلق الفانة ومنع تدفّق البترول. في ولاية قابس تمّ نصب الخيام واعتصم المعطلين عن العمل أمام المجمع الكيميائي بقابس بدعوة من اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل بجهة قابس من أجل فتح المناظرات، القيروان الأولى في الفقر والإنتحار والبطالة انتفضت أيضا وتمّ اليوم تنفيذ إعتصام مفتوح أمام فانة القيروان ''مصنع التبغ والوقيد'' وهذه عيّنة من بعض التحركات النضالية بالجهات لفت انتباه الحكومة وجعلها تُعيد حساباتها قبل أن يزداد غضب الشعب وتُقبل البلاد على حرب جوع لا مناص منها.
العديد من التنسيقيات الجهوية أجمعت على القيام بتحرّكات داخلية ومنهم من اعتصم بساحة الحكومة بالقصبة احتجاجا على كلّ الأوضاع التي أصبحت لا تُطاق في وطن لم يعُد يهتمّ بشعبه. وخير مثال على هذا أهالي مدينة الشابة الذين طال اعتصامهم واحتجاجاتهم أكثر من شهر ونصف من أجل إعادة نشاط نادي هلال الشابة فخيّروا ترك تونس خلفهم والتوجّه إلى البحر في اتجاه السواحل الإيطالية علّهم يجدون هناك من يستمع لمشاغلهم. إضافة إلى هشاشة المنوال التنموي في كلّ الجهات والأزمة الإقتصادية التي ألقت بظلالها على كلّ التونسيين من عملة وعاطلين عن العمل، أصبحت بلادنا اليوم شبه عاجزة على مقاومة ومجابهة فيروس كورونا هذا العدو اللاّمرئي الذي حصد أرواح الآلاف من التونسيين نتيجة سوء التصرّف من قبل الحكومات المتعاقبة الغير مبالية بصحّة الشعب. بعد فتح الحدود يوم 27 جوان الفارط وصلت تونس اليوم إلى 422988 حالة إصابة بكورونا وسجّلت 2445 حالة وفاة، هذه الأرقام قابلة للإرتفاع في كلّ لحظة نظرا إلى الوضع الكارثي الذي تعيشه مستشفيات تونس على كلّ الأصعدة من غياب وسائل الحماية والوقاية للإطارات الطبية وشبه الطبية والعملة وتقنيين وغياب للعديد من الآلات والمعدات الطبية حتى أنّ طاقة استيعاب مرضى كورونا فاقت أعلى درجاتها وتوفي الكثيرون نظرا لعدم توفر سرير إنعاش أو وجود مكان بالمستشفيات.
الشعب في الجهات ينتفض على كلّ الأوضاع الخانقة التي لم تعُد تُطاق في حين أنّ النخبة التي قاموا بانتخابها لم تلتفت لهم ولم تعِر لمشاغلهم اهتماما. مجلس نواب الشعب المنتخب 2019 قدّم للتونسيين حقيقة النواب الذين تعهّدوا أن يكونوا صوتا ناطقا باسم مطالب واحتياجات الشعب وأن يعملوا على تحقيقها، في حين أنّهم قاموا بالعمل على تحقيق مصالحهم لا مصالح الشعب ولا مصلحة البلاد.
تقرير محكمة المحاسبات كشف خور وفساد الطبقة السياسية في انتخابات 2019، إخلالات أغلبها خطير جدا ترتقي إلى أن تُؤكّد أنّ الإنتخابات باطلة، تجاوزات لا تُحصى ولا تُعد منها استعمال المال الأجنبي تحت غطاء جمعياتي لضخ مال يستخدم في الحملات الانتخابية، استغلال لموارد الدولة، إشهار سياسي، لوبيات أجنبية، تبرعات مجهولة المصدر، دعم اعلامي غير قانوني وغيرها من التجاوزات المخزية لمرشحين للرئاسية لم يترددوا في الجزم بصدقهم ونظافة أيديهم.
تِسعُ سنوات على ثورة الياسمين مضت وتونس لا تزال اليوم تتخبّط في وحْل الأخطاء السياسية المتعاقبة وتُعاني من أنانية ونرجسية الأحزاب التي لا غاية لها سوى مصالحها وزادت أزمتها الإقتصادية والإجتماعية تعمّقا. شعلة الثورة لن تنطفئ ونيران غضب الشعب بدأت تشتعل في الجهات أمام طبقة سياسية أثبت فسادها تقرير محكمة المحاسبات والشعب من أجل العيش بحريّة وكرامة ولتحقيق التنمية مستعدّ لمواصلة إشعال لهيب الثورة دون تراجع.
تعليقك
Commentaires