تونس دون حكومة والدستور مصيره مجهول وقيس سعيد ليس في حيرة من أمره
'' القضية في الواقع ليست قضية دستورية تتعلق بالنصوص ولكن هي قضية سياسية .. الأمر يتعلّق بالأمر السياسي في تونس والحلول القانونية موجودة''.
كان هذا مقتطف من خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيّد يوم لقائه مع العميد صادق بلعيد والعميد محمد صالح بن عيسى والأستاذ أمين محفوظ يوم الثلاثاء 14 سبتمبر 2021. خلال هذا اللّقاء أفصح قيس سعيد عن نواياه تُجاه مدى عزمه على تعيّين رئيس للحكومة وتكليفه بتشكيل الحكومة وبيّن أمام الرأي العام التونسي بكلّ وضوح مدى مقتِه وتنديده بدستور 2014 مشيرا إلى رغبته القوية في إدخال تعديلات عليه.
نوايا قيس سعيد تُجاه تشكيل الحكومة
''الدستور أتاح في الفصل 80 لرئيس الجمهورية أن يلجأ إلى جملة من التدابير الإستثنائية التي تحفظ الدولة إذا كان هناك خطر داهم واليوم الخطر جاثم والخطر واقع على الدولة التونسية'' بهذه العبارات برّر قيس سعيد إقدامه على تجميد صلاحيات البرلمان وإعفائه لرئيس الحكومة هشام المشيشي وكلّ بقية التدابير الإستثنائية التي اتخذها يوم 25 جويلية الفارط، ذلك اليوم التاريخي.
بالفعل، إنّ الفصل 80 من الدستور التونسي أتاح لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مُهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية ولكن هذا الفصل لم يمنحه الحقّ في تجميد البرلمان بل نصّ الفصل على أن يظلّ مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة فترة التدابير الإستثنائية، كما أنّه وفي تلك الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.
في حين أنّ رئيس الجمهورية أوّل الفصل 80 كما أراد واتّخذ التدابير الإستثنائية التي اعتبرها مناسبة لحلّ الأزمة التي تمرّ بها تونس وأزاح خصومه السياسيّين مُستعينا بطيف كبير من الشعب التونسي الذي وفقا لإستطلاعات الرأي غير راضٍ على تلك الطبقة السياسية وكانت فرحة الشعب التونسي يوم 25 جويلية الفارط خير دليل على ذلك.
قيس سعيد وعد يوم اتخاذه لتلك التدابير الإستثنائية، أنّه سيُعيّن رئيس حكومة وأكّد قائلا '' القرار الثالث يتمثّل في تولّي رئيس الدولة السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس للحكومة ويُعيّنه رئيس الجمهورية ''. ولكن على ما يبدو، فإنّ رئيس الدولة قد تراجع في قراره ولم يعُد يكترِث كثيرا بوجود حكومة من عدمها وهذا ما أبرزه خطابه مع ثلّة أساتذة القانون الدستوري.
''بدأ اليوم الحديث عن تشكيل الحكومة، كان يُمكن تشكيل الحكومة حتى يوم 26 جويلية الفارط ، ليست قضية حكومة وإنّما قضية سياسة حكومة، نحن نُريد حكومة سهل، بعد قليل أسمّي فُلان رئيس حكومة وأُكلّفه بتشكيل الحكومة ونرجع كما قبل 25 جويلية''.
بعد هذا الخطاب تأكّد للرأي العام التونسي أن قيس سعيد حاد عن قراره الثالث يوم 25 جويلية الفارط، ولم يعُد تشكيل الحكومة من أولوياته وكان هذا ردّا منه على كلّ الذين استنكروا تباطؤه في تعيّين رئيس للحكومة. قيس سعيّد علّل بذلك هذا التأخير في أنّ تركيبة الحكومة ليست ذات أهمية بقدر سياسة وتوجّهات الحكومة. أليس من المُفترض أن يختار رئيسا للحكومة ويُعيّن ذلك الأخير وزراء حكومته ومن ثمّ تُحدّد سياسة الحكومة باتّفاق بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة؟ تساءل الكثيرون.
'' القضية كيف تأخّرت الحكومة .. لا بُدّ من حكومة ولكن ما هي السياسة التي ستتبعها الحكومة؟ إذا ستعود الحكومة وتظلّ المسألة الأخرى، لأُعِيد إذا الحكومة التي كانت والسّلام .. قضيّتهم يعني قضية الحكومة ، .. الدولة مُستمرّة وهناك عديد الوزارات التي تنفّس فيها المديرين العامين الصُعداء لما تمّ تنحية الوزراء عنهم .. القضية في السياسة التي ستتبعها الحكومة ، أوّلا الدولة مُستمرّة، لا بُدّ من حكومة ولمن لا يعرفون في تونس لم تكن هناك حكومة أصلا في دستور 59 ووردت كلمة حكومة في ثلاث مناسبات، كان كتاب الدولة ومجلس كتاب الدولة ولم تكن هناك حكومة .. يعني مُشكلتُهم في الحكومة، لم تكُن أصلا هناك حكومة وكان هناك كُتّاب دولة في عهد بورقيبة''.
تصريحه هذا كان واضحا وكافيا ليتأكّد الرأي العام التونسي وكلّ السياسيّين والطبقة الحزبية أنّ تشكيل الحكومة هو ليس من أولويات قيس سعيد بقدر اهتمامه بالسياسة التي ستنتهجها الحكومة المقبلة، ولما لا، يُمكن أن يُقرّر تعيّين وزير أوّل وكتّاب دولة فقط كما في عهد الراحل الزعيم الحبيب بورقيبة ليتولى بمُفرده إدارة السلطة التنفيذية.
قيس سعيّد لم يُخفي كرهه الشديد للطبقة السياسية وليدة انتخابات 2019، وكلّ خطاباته كانت ممتلئة بالإتهامات والنقد لهم من أحزاب وسياسيّين دون ذكر الأسماء. وكان في خطابه مع أساتذة القانون الدستوري قد بعث برسائل واضحة للطبقة السياسية مفادها أنّه ليس في حيرة من أمره وأنّه ثابت على المبدأ وسيتمّ تشكيل حكومة ولكن بعد معرفته للسياسة التي ستُطبّقها الحكومة.
كما بعث قيس سعيد برسالة لكلّ الأطراف التي تدعوه للحوار والجلوس على نفس الطاولة لإيجاد حلّ مشترك للأزمة، وخاصّة حركة النهضة الإسلامية، مفادها أنّه رافض للحوار مع الفاسدين وأنّه لا ينتمي إلى تلك الطبقة السياسية وكان قد أكّد قائلا ''لستُ منهم ولا أستطيع أن أكون منهم ، لستُ منهم وقُلتها ألف مرّة، زاهد في الدنيا ولكنّي لست زاهدا في الدولة التونسية ، لا أتكلّم معهم ولا أتحاور مع الناس السراق الذين نكّلوا بالشعب التونسي، هؤلاء سُرّاق .. ولا للتعامل مع اللّصوص ولا للتعامل مع العُملاء ، خونة يدفعون النقود للخارج كي يُسيؤوا لبلادهم ، هؤلاء الناس لا أتحاور معهم ''.
نوايا قيس سعيّد تُجاه تعديل الدستور:
أبدى رئيس الجمهورية قيس سعيد نيّته في تعديل الدستور أوّلا من خلال نقده واستهزائه بدستور 2014، الذي اعتبر أنّه قد تمّ صياغته على المقاس وانتقده قائلا:
''لنعُد إلى الدستور الذي صاغوه، قالوا أحسن دستور وكانوا للحظة سيعتبرونه مُنزّل من السماء ، وقالوا أحسن دستور في العالم، وهم صاغوه دستور وضعوا فيه الأقفال على كلّ الفصول وأصبح تقريبا كلّ نصٍّ لا يمكنك التحرّك فيه إلاّ في الإطار الذي تحت الحصار''.
بهذه العبارات، عبّر قيس سعيد عن ثقته بأنّ دستور 2014 ليس نصا قرآنية منزّلا وأنّه قابل للتعديل، كما أنّه دستور قد تمّت صياغته على المقاس من قبل أطراف سياسية حزبية أرادت تحقيق مصالحها على حساب مصالح الشعب التونسي والدولة. واستشهد رئيس الجمهورية بكلمات الزعيم الحبيب بورقيبة وصرّح قائلا ''بورقيبة يتحدّث عن الدستور ويقول وهو قابل للتطوّر بتطوّر الزمان''.
إعلان قيس سعيد عن رغبته في تعديل الدستور، خلقت ردود أفعال متنوّعة لدى الأحزاب، والشخصيات الوطنية. شفيق صرصار أستاذ القانون الدستوري والرئيس السابق لهيئة الإنتخابات، اعتبر أنّ قيس سعيد لا يريد القطع نهائيا مع دستور 2014 بل يريد إصلاحه من الداخل وليس التأسيس لدستور جديد كليا، موضّحا أن القطع غير ممكن لأنه ليس لنا سلطة تشريعية-تأسيسية قادرة اليوم على كتابة النصوص في حين أنّ التعديل يمكن القيام به عن طريق لجنة خبراء.
القيادي الإسلامي بحركة النهضة رفيق عبد السلام، اعتبر أنّ تصريحات قيس سعيّد تدل على أنّ الوزراء القادمون لن يتجاوز دورهم كُتاب دولة ورئيس الحكومة سيكون وزيرا. في حين أنّ 70 نائبا بالبرلمان، تقدّموا برسالة حملها النائب الصافي سعيد لقصر قرطاج والغاية منها لقاء رئيس الجمهورية قيس سعيد من أجل إيجاد حل للأزمة الحالية. مبادرة 70 نائبا انتقدها النواب الإسلاميون على غرار النائب الراديكالي سيف الدين مخلوف الذي اعتبرها محاولة '' إنقاذ الإنقلاب''.
كما اجتمعت يوم 14 سبتمبر الجاري، مجموعة من الأحزاب على غرار الجمهوري والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات وآفاق تونس والتيار الديمقراطي وحزب الأمل لتقييم خمسين يوما من الإجراءات الاستثنائية، حيث اتفقت هذه الأحزاب على رفضها لتعليق العمل بالدستور مطالبين رئيس الجمهورية باحترام الدستور وتعهداته واليمين الدستورية التي ادّاها، رافضين حالة الجمع بين السلط والانفراد بالقرار ورفض الحوار.
يبدو أنّ رئيس الجمهورية اختار مسار البلاد بمفرده، وخيّر التخلّي عن المنظمات والجمعيات الوطنية التي لها اطلاع كبير على الأمراض التي أصابت البلاد والدليل على ذلك عدم اكتراثه بمبادرة اتحاد الشغل التي تتمثل في خارطة طريق لما بعد 25 جويلية وتتضمن 11 نقطة وركز مقترح الاتحاد على طبيعة الحكومة المقبلة التي دعا إلى أن تكون مصغرة وعلى دور رئيس الجمهورية في الدفع نحو إطار قانوني يعمل من خلال هيئة استشارية على إصلاح النظام السياسي والانتخابي.
قيس سعيّد يعمل بالتعاون مع فريق مقرّب منه اختاره بمفرده وأكّد أنّ الدولة مستمرّة وكلّ مؤسساتها تعمل وردا منه على كلّ دعوات تشكيل الحكومة ووضع تاريخ انتهاء للتدابير الإستثنائية، أكّد قائلا
''لستُ في حيرة من أمري ولن أذهب في خياراتهم ، اليوم التنظيم المؤقّت للسُلط موجود ولدي من النصوص ما لا يعرفون ، والطريق واضحة وهي الطريق التي ذهب فيها الشعب التونسي ولسنا دُعاة فوضى ولم نكُن أبدا من دُعاة الإنقلابات ''.
يبدو أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيد هو فقط من يعلم رفقة الفريق المُحيط به، مسار البلاد وخارطة الطريق التي رسمها دون التعاون مع المنظمات الوطنية. متى سيُعيّن قيس سعيد رئيس للحكومة؟ هل سيعتمد النظام البورقيبي ويُسيّر البلاد بكُتّاب دولة؟ هل سيُعدل دستور 2014؟ إذا كان كذلك، كيف؟ هل سيعود البرلمان؟ أسئلة تظلّ دون إجابة في حالة مواصلة اعتماد قيس سعيد لأسلوب التجاهل والتعتيم.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires