مُستغلا دستور 2014 : استراتيجية قيس سعيد لتنفيذ مخطّطه
انقسم الشعب التونسي منذ 25 جويلية إلى شقّين، شق مساند للإجراءات والتدابير الإستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد بتفعيله للفصل 80 من دستور 2014، وشق آخر رافض لهذه الإجراءات واعتبرها انقلاب على الدستور وعلى المسار الديمقراطي الذي سلكته تونس منذ ثورة الحرية والكرامة.
قيس سعيد اعتمد سياسة تكتيكية منظّمة في تنفيذه لإجراءات 25 جويلية وواصل خطّته المرتّبة لإصدار أمر رئاسي بتاريخ 22 سبتمبر 2021، أكّد من خلاله للشقّ المعارض له أنّه فعلا انقلب على دستور 2014 وعلى مؤسّسات الدولة ومع ذلك ظلّ الشقّ المُساند له مُقتنعا وداعما له في كلّ ما قام به.
قيس سعيد منذ ترشّحه للإنتخابات الرئاسية 2019، إدّعى أنّه لا يملك أيّ حزب وراءه وأنّه لا يملك أيّ برنامج انتخابي، في حين أنّ من نظّموا وأشرفوا على حملته الإنتخابية على غرار رفيقه رضا شهاب المكّي المعروف بـ ''لينين'' قد أعلن للعلن عن برنامج قيس سعيد الإنتخابي والذي يقوم على ''طريقة حُكم جديدة تُمكّن من الحصول على السّلطة التّشريعية والرقابية من المحلي نحو المركزي''، وحمل هذا المشروع السّياسي عنوان "البناء الجديد" الذي يرى ضرورة تنظيم انتخابات بعينها للحصول على مجالس بلدية ومحلّية وجهويّة ومجلس نواب شعب يتمتّع بشعيبّة عالية وبتمثيليّة شعبيّة حقيقيّة.
وانطلق من شعار''الشعب يُريد'' الذي من خلاله حشد شعبية كُبرى مكّنته من الفوز بالإنتخابات الرئاسية واستغلّ نقمة الشعب على الطبقة السياسية في العشرية الأخيرة ومن خلالها حصل على مساندة كبيرة من الشعب له إلى حدود اليوم، وواصل قيس سعيد تطبيق لمخطّطه وفقا للتمشّي الآتي ذكره.
تحذير الطبقة السياسية
رئيس الجمهورية بعد أن خرج رئيس الحكومة هشام المشيشي عن طوعه ووضع يده في يد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي شكّل له حزاما برلمانيا قويا يضمن له مواصلة الحُكم، انقلب على السلطة التشريعية وعلى رئيس الحكومة المشيشي وأصبح رافضا لأيّ حوار معهم.
بالإضافة إلى القطيعة بين الرئاسات الثلاثة آنذاك، أصبح مجلس نواب الشعب في ''حالة كارثية''، فعلاً لقد تحوّل من مؤسسة تشريعية إلى حلبة صراع بين النواب وتقريبا اعتاد التونسيون إن لم يكن يوميا على مشاهدة ''فضائح'' ممثّليهم في البرلمان الذين انتخبوهم كي يحقّقوا لهم مطالبهم. نواب البرلمان زادوا من قتامة وتعاسة المشهد السياسي، الكلّ ضدّ الكلّ ولا أحد من بينهم يُعلي مصلحة تونس، هو برلمان تحالفات وانشقاقات وللأسف بات برلمان تكفير وترهيب وفلكلور من السبّ والشتم وتبادل العنف الجسدي واللفظي بين النواب.
الإختلافات الحزبية والتوجّهات السياسية المُتقاطعة خلقت حالة استنفار وكره وعداوة بين نواب البرلمان، خاصّة بين التيار الإسلامي الجامع لحركة النهضة وائتلاف الكرامة والحزب التجمّعي الوفي لعهد الرئيس الراحل بن علي، الدستوري الحرّ. سيف الدين مخلوف رئيس ائتلاف الكرامة الإسلامي ونواب كتلته مثّلوا مثلث الرعب والتكفير والترهيب في البرلمان وتميّزوا بأسلوبهم العدائي في التعامل مع زملائهم النواب وبخطاباتهم التي تُحرَّض على الكراهية، عبير موسي أصبحت العنصر الوحيد المتحكّم في سير الجلسات العامة فهي تعتمد أسلوب القوة فإما أن يُسمح لها بالتصوير عبر هاتفها الجوال أو أنّها ستقوم بخلق حالة فوضى داخل القاعة كي تُعطل الجلسة العامة.
وأمام رداءة البرلمان، أبدى قيس سعيد كُرها كبيرا للطبقة السياسية ونقمة جسّدها في كلّ خطاباته المتشنّجة التي دعا فيها نواب الشعب في البرلمان إلى ضرورة الحذر من نفاذ صبره وإقدامه على اتخاذ قرارات لن تكون في صالحهم وستكون في صالح الشعب. واعتمد الضمير المُبهم مُستعملا لفظ ''هؤلاء'' قاصدا السياسيّين واتّهمهم بالسرقة والإفتراء ونهب أموال الشعب وتوعّدهم بالمحاسبة ولكن نواب البرلمان لم يأخذوا تهديدا وتحذيرات قيس سعيد على مُحمل الجدّ وواصلوا صراعاتهم.
كسب قاعدة شعبية كُبرى حاقدة على المنظومة السياسية
الصراعات والرداءة التي ميّزت برلمان 2019، خلقت نقمة وكره شديد لدى الشعب التونسي على كلّ النواب والأحزاب. وزادت جائحة كورونا التي أتت بتداعياتها الإقتصادية والإجتماعية والصحية على التونسيين، من رغبة الشعب في التخلّص من البرلمان وفضائح النواب خاصّة بعد تورّط أبرزهم في قضايا فساد وفي تبيّيض الأموال.
آلاف التونسيون زُهقت أرواحهم جراء فيروس كورونا، تونس أصبحت في المرتبة الأولى إفريقيا من حيث عدد الإصابات يوميا بالوباء ، مقدرة شرائية تدهورت ، مؤسسات كبرى ومتوسّطة دقّ ناقوس الإفلاس على أبوابها وأمام هذه الأزمة لم تنجح حكومة المشيشي ولا البرلمان العقيم في إيجاد حلّ.
ونظرا لما سبق ذكره، وإلى ما وصلت له تونس من إستشراء للفساد المالي والسياسي الذي نخر مؤسسات الدولة مع دعوة النهضة إلى التعويضات، انتظمت في بداية شهر جويلية الفارط، على شبكات التواصل الاجتماعي دعوات للخروج للتظاهر السلمي يوم 25 جويلية من ذات الشهر،
والغاية من ذلك إسقاط المنظومة السياسية والتأسيس لبناء جديد وفتح ملفات الفساد وتطبيق المُحاسبة ضدّ كل من ساهم في تردي الأوضاع العامة في تونس، خاصّة حركة النهضة الإسلامية التي استفردت بالحُكم على امتداد عشرة سنوات وأسقطت كلّ الحكومات وعبث بالمسار الديمقراطي.
القطرة التي أفاضت الكأس
بعد أن كشف قيس سعيد عن مقتِه وسُخطه على الطبقة السياسية الحزبية، وبعد أن تأكّد من أنّ نسبة كبيرة من الشعب التونسي أصبحت تتمنى زوال البرلمان، ومع اندلاع وقفات احتجاجية متزامنة في كافة ولايات الجمهورية صبيحة يوم 25 جويلية المنقضي والتي تمّ فيها المناداة بإسقاط البرلمان والمنظومة السياسية وتزامنا مع رمزية هذا التاريخ، أعلن رئيس الجمهورية على تفعليه للفصل 80 من الدستور وجمّد البرلمان وأعفى رئيس الحكومة هشام المشيشي.
وكما كان متوقّعا، سادت حالة من أجواء الفرحة والسعادة في صفوف التونسيّين تعبيرا عن فرحهم بذلك القرار الذي اعتبروه قرارا ناجحا جاء تزامنا مع ذكرى عيد الجمهورية التونسية 64 وتعالت الزغاريد في الشوارع مع استعمال صفارات السيارات والتصفيق.
وفي ظرف عشرون يوما من إعلان تجميد البرلمان، اتخذ قيس سعيد الكثير من القرارات و الأوامر الرئاسية المتتالية، على غرار إعفاء وزراء وولاة ومسؤولين حكوميين من مناصبهم، دعوة التجار والمصنعين لمختلف المواد كالأدوية والمياه والطاقة والمواد الغذائية للتخفيض في الأسعار. القيام بزيارات ميدانية عدة، التمديد في حالة الطوارئ وضبط توقيت حظر الجولان، إرساء غرفة عمليات حول الكوفيد، الدعوة لأيام تلقيح مُكثّفة لاقت نجاحا باهرا وحقّقت أرقاما قياسية وغيرها من التدابير التي أعادت تدريجيا السير العادي لمؤسسات الدولة وفق استراتيجية قيس سعيد، بالإضافة إلى تتبع نواب قضائيا.
التدرّج بالخطر الداهم من كورونا ، برلمان ثمّ دستور 2014
فور إعلانه عن إجراءات 25 جويلية، أكّد قيس سعيد أنّه احترم الدستور وفعّل الفصل 80 موضّحا انّ الخطر الداهم هو ارتفاع عدد الوفيات بسبب وباء كورونا وفشل الحكومة والبرلمان في إيجاد حلّ لهذا الخطر. وقبل نهاية مدّة التدابير الإستثنائية التي قدّرها بشهر فقط، أصدر قيس سعيد يوم 23 أوت 2021 أمرا رئاسيا يقضي بالتمديد في التدابير الاستثنائية المتخذة وذلك بتعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب وبرفع الحصانة البرلمانية عن كل أعضائه، إلى غاية إشعار آخر.
وبعد هذا التمديد، لم يتوجّه قيس سعيد بخطاب طمأنة للشعب التونسي ولم يُفصح عن توجّهاته وخارطة الطريق التي سيعتمدها في المقابل واصل اعتماد أسلوب التعتيم والخطاب المُبهم الذي تتمّ فيه توجيه التُهم ''لهؤلاء''. ثمّ إنتقل رئيس الجمهورية من خلال خطاباته بتقديره أنّ مجلس نواب الشعب هو ''الخطر الجاثم'' حيث صرّح بتاريخ 24 أوت الفارط، في لقائه بوزير التجارة وتنمية الصادرات محمد بوسعيد، "المؤسسات تمثل خطرًا جاثمًا على الدولة" وذكر من بينها البرلمان الذي قال إنه "يمثل بنفسه خطرًا على الدولة".
وأمام تأخّره في الإعلان عن تركيبة الحكومة، تعالت الإنتقادات من كلّ حدب وصوب من قبل السياسيين والرأي العام الذين اعتبروا أنّ قيس سعيد انتهك دستور 2014، وتفرّد بالسلطة وهو في حيرة من أمره. ولكن رؤية قيس سعيد اتّضحت يوم أجرى مُستشاره وليد الحجام حوارا تلفزيا لقناة ''سكاي نيوز عربية'' وأكّد أنّ رئيس الدولة لم يتأخّر بل هو يعتمد سياسة التريُث والتأنّي لإختيار الشخصية الوطنية التي في مقدورها أن تكون قادرة على رئاسة حكومة في تونس جديدة بعد 25 جويلية، وكشف أنّ سعيد يسعى إلى إعادة النظر في النظام السياسي القائم في تونس لأنّه أصاب تونس والعملية الديمقراطية بالشلل باعتبار وأنّ دستور 2014 أثبت العديد من الهنّات خاصّة على مستوى إدارة السلطة التنفيذية وعلى مستوى السلطة التشريعية.
بعد هذا التصريح، أكّد قيس سعيد حقيقة نواياه في تغيّير وتعديل دستور 2014 يوم لقائه مع العميد صادق بلعيد والعميد محمد صالح بن عيسى والأستاذ أمين محفوظ بتاريخ 14 سبتمبر الجاري، وأعلن أنّ تركيبة الحكومة ليست ذات أهمية بقدر سياستها وتوجّهاتها. كما بعث قيس سعيد برسالة لكلّ الأطراف التي تدعوه للحوار والجلوس على نفس الطاولة لإيجاد حلّ مشترك للأزمة، وخاصّة حركة النهضة الإسلامية، مفادها أنّه رافض للحوار مع الفاسدين وأنّه لا ينتمي إلى تلك الطبقة السياسية وكان قد أكّد قائلا
''لستُ منهم ولا أستطيع أن أكون منهم ، لستُ منهم وقُلتها ألف مرّة، زاهد في الدنيا ولكنّي لست زاهدا في الدولة التونسية ، لا أتكلّم معهم ولا أتحاور مع الناس السراق الذين نكّلوا بالشعب التونسي، هؤلاء سُرّاق .. ولا للتعامل مع اللّصوص ولا للتعامل مع العُملاء ، خونة يدفعون النقود للخارج كي يُسيؤوا لبلادهم ، هؤلاء الناس لا أتحاور معهم ''
وأبدى قيس سعيد نيّته في تعديل الدستور أوّلا من خلال نقده واستهزائه بدستور 2014، الذي اعتبر أنّه قد تمّ صياغته على المقاس وانتقده قائلا:
''لنعُد إلى الدستور الذي صاغوه، قالوا أحسن دستور وكانوا للحظة سيعتبرونه مُنزّل من السماء ، وقالوا أحسن دستور في العالم، وهم صاغوه دستور وضعوا فيه الأقفال على كلّ الفصول وأصبح تقريبا كلّ نصٍّ لا يمكنك التحرّك فيه إلاّ في الإطار الذي تحت الحصار''.
وبتاريخ الاثنين 20 سبتمبر 2021، أعلن قيس سعيد رسميا عن مخطّطه الحقيقي من سيدي بوزيد وصرّح في خطاب شعبوي مُتشنّج أنّه قرّ مواصلة العمل بالتدابير الاستثنائية وذلك مع وضع أحكام انتقالية وتعيين رئيس للحكومة مشددا في نفس الاطار ان الاحكام المتعلقة بالحقوق والحريات ستبقى سارية المفعول و لن يتم المساس بها " لم يتمكن أحد من افتكاك حريتكم وليسمع العالم أن الأحكام الخاصة بالحقوق والحريات ستبقى سارية المفعول ".
وفاجئ كلّ السياسيّين والرافضين لتدابير الإستثنائية، وأعلن قيس سعيد اليوم الاربعاء 22 سبتمبر 2021، بمقتضى أمر رئاسي، مواصلة تعليق جميع اختصاصات مجلس نواب الشعب، ومواصلة رفع الحصانة البرلمانية عن جميع أعضائه، ووضع حد لكافة المنح والامتيازات المسندة لرئيس مجلس نواب الشعب وأعضائه، وتعليق التدابير الخاصة بممارسة السلطة التشريعية، والتدابير الخاصة بممارسة السلطة التنفيذية. مع مواصلة العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع هذه التدابير الاستثنائية، إضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، وتوليه إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي.
وصدر بذات اليوم، بالرائد الرسمي الأمر الرئاسي الذي تضمّن صدور الأربعة أبواب الاضافية مُفصّلة في 23 مادّة- تجاوزت الاعلان فقط عن تعليق غير صريح للدستور وامتداد لروح الفصل 80، إلى استبداله النهائي بدستور مصغّر يعيدنا إلى إعلان التنظيم المؤقت للسلط العمومية الذي عشناه في 2011.
ووفقا لهذا الأمر الرئاسي، تجمعُ السلط في قصر قرطاج بيد قيس سعيد الى حين تعيين رئيس حكومة تُفوض له صوريا السلطة التنفيذية. بالنظر لمحتوى الفصول الثلاثة والعشرين ما يُمكن استشرافه هو أنّ الخطوات القادمة هي تعيين 'وزير أول' من المقربين لسعيد وفريق حكومي مصغّر يتماهى مع سياسة الرئيس، وتعيين لجنة خبراء تُعنى بإضفاء مصداقية شكلية للتعديلات الفردية التي سيعرضها الرئيس في الأسابيع القادمة على الاستفتاء، مع عدم امكانية الطعن واغلاق كلّ منافذ الرفض القانونية.
مُستغلاّ رداءة البرلمان وصراعات النواب والأحزاب لتحقيق مصالحهم ومُستفيدا من سُخط الشعب التونسي على الطبقة السياسية التي أدّت إلى عشرية سوداء، تمكّن قيس سعيد من المرور بسلاسة لما أراد إنجازه منذ توليه منصب الرئيس ومُعتمدا على دستور 2014، تفرّد بكلّ السلط في إطار تنفيذه لمشروعه الإنتخابي.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires