يبدو أنّنا صرنا شعبا استهلاكيا بامتياز.. وصار اقتصادنا يرتكز على التوريد، وتساهلنا في توريد كلّ شيء حتى البضائع التي ننتج.. واللافت أنّنا تعودّنا على هذه السياسة منذ 2011، والفضل في ذلك يعود إلى النهضة منذ أن تولّت إدارة أمور حياتنا الاقتصادية والسياسية والثقافية أيضا.. .
أفكار - نائلة السليني
تقف النهضة هذه الأيام ضدّ رياح، يمكن القول بأنّها لافحة شيئا ما، والحقيقة إن أردنا البحث في المداخل التي تسلّلت منها هذه الرياح ، أن زمنها يرجع إلى تقرير دائرة المحاسبات الأخير الذي أثار نقاطا تعتبر جريئة وليس للنهضة بها عهد. .
طبعا الموضوع ليس تحريرا لمقالة فقهية، وليس مقاربة فيما أورده الدستور من بنود تدعّم حرية المعتقد.. وإنّما هو معالجة لمسألة ما كنّا نقف عندها في سنوات قليلة مضت. .
كان لقاء عفويا، ولا أدري إن كان نقل خطاب السيد الشاهد مباشرة في قناة خاصّة عفويا أيضا.. المهمّ أنّ الجمع فرض نفسه عليّ، فحملت على متابعة الخطاب، خاصّة لما تميّز به الخطيب من لهجة لم نعهدها فيه، ونبرة لم نألفها معه.. .
وحذار!! إياكم أن تنتقدوا سياسة ابن القارح التونسي.. فهو لا يقول إلاّ حقّا، وسياسته هي النافذة فينا منذ ثورة " الخريف العبري"...
ما سأذكره من حديث إنّما هو استرسال لحديث آخر خاطبني به يوسف الشاهد ، وإن نطقت باسمه عاريا من الألقاب فلأنّني أعتبره رفيقي في جميع ما نعيشه في بلادنا.. لكن لا أخفيكم يا سادتي أنّني بدأت أخشى على نفسي من التحدّث إليه باعتباره ندّا للشعب.. وعلى هذا الأساس فسألقّبه بالسيد الرئيس حتى يكون بيننا حاجز يحفظ الألقاب والمراتب. .
هذا ما استحضرته وأنا أشاهد الأمن يضرب أبنائي الطلبة.. عصيّ ترتفع لترتاح على أجساد ضعيفة خانها الغذاء.. هراوات تولول في الفضاء لتستقرّ على رؤوس كم كابد الجامعي ليفتحها .. ومن قبله كم ضحّى الأبوان حتى تكبر وتينع.. وتساءلت : ألهذا الحدّ ينقم الشاهد، الجامعيّ والمحلّف أخلاقيا على استئمان أبناء شعب أكله الضعف وأنهكه التعب من اللهاث وراء القوت؟ وتساءلت.. ماذا سيكون موقفي لو شاهدت هؤلاء المسعورين وهم ينقضون على ابني ضربا وتكسيرا؟؟.
الحكومات المتعاقبة منذ 2011 هي في الحقيقة "صبّابة ماء على اليدين"، فالمدبّر الرسمي هي الأحزاب التي صاغت صورة كلّ حكومة بعد ان طرّزت لها من الخطابات الدعوية أفنانا وألوانا.. ونظرا إلى أنّ هذه الأحزاب المالكة لخيوط الدمى متعطّشة ، ولا تزال في حقيقة الأمر، إلى الحكم فإنّها ظلّت تمارس هواية تبديل المشهد الحكومة عسى أن ترضي جميع الأطماع ويجلس على كرسي الحكم كلّ من تاقت نفسه إليه.. وتلك هي لعبة الحكم.. لذلك تجد حضور هذه الحكومات المتعاقبة مثل غيابها، تمرّ أمامها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وكأنّها مشاكل الجيران.. .
وفي الأثناء تنتصب الحكومة على رؤوسنا مثل النيزك .
بماذا نفسّر اجتماع هذه المصائب على رؤوسنا في فترة واحدة؟ ومن يقف وراءها؟ سؤال قد يستفزّ البعض، لكنّه تحوّل إلى حقيقة تصدمني كلّ يوم، حقيقة أقرؤها في الأحداث اليومية التي تمرّ بها بلادي. وإلاّ بماذا نفسّر هذه الصدف مجتمعة ؟ صدف تركّز على إلحاق الأذى بصغار: من رضّع ... إلى أطفال في نعومة أظفارهم؟ .
حالنا في تونس وفي بقية الدول العربية هي شبيهة بقصّة الصرصار والنملة.. ومن منّا لم يشغف بها وهو صغير؟ لكن، حذار فصرصار القرن الواحد والعشرين ونملة القرن الواحد العشرين قد كبرا في السنّ وتغيّرت أنماط تفكيرهما. وغابت تلك الصورة البريئة لبطلينا ليتغير معهما جنس الحكاية فصارت " لعبة الصرصار والنملة" ، وإذا بالحكاية غريبة عنّا وإذا بالسكينة خوف وحيرة : .
تابعت أوّل أمس الجلسة الأولى التي انعقدت بمجلس النواب للاستماع إلى ممثلين عن رئاسة الجمهورية لمناقشة مشروع قانون المساواة في الميراث.. تابعت باهتمام لأنّي اطلعت على هذا المشروع ولأنّي حريصة على أن أواكب عن قرب ملاحظات السيدات والسادة النواب في أوّل لقاء لهم مع من وضع هذا المشروع...
كم منّينا النفس بأنّ أحوال الحرم الجامعي ستتغيّر .. وكم تطلّعنا إلى وزير ملمّ بمشاكل هذا القطاع الحيوي وأن يسهم بمقاربة نقدية تتجاوز الراهن وتقدّم الحلول العاجلة والقادرة على إخراج السكين بأقلّ الأضرار من الجسد الجامعي الذي ظلّ يعاني طيلة عقود من التهميش وكسر الشوكة. .
جمل نطق بها طه حسين تعقيبا على ما يواجهه المصريون من عنف الإخوان، ويستأنف استنكاره ": وما هذا الكيد الذي يُكاد؟ لِمَ كل هذا الشر؟ لم كل هذا النكر؟". .
قدر تونس أن تكون سبّاقة في كلّ شيء، وها نحن نعيش معضلة القرن..و تتساءلون اليوم عن الحال المتردّية التي بلغتها فئة من مجتمعنا.. وإن تساءلتم فلأنّكم بدأتم تشعرون بخطر ظاهرة كانت في الأمس محلّ فخر، وعلامة رجوع إلى الطريق المستقيم في إرضاء الله وإعلاء كلمته، بل هناك من اعتبر أنّه أرجع للإسلام مكانته الحقيقية. لكن أستسمحكم أن أعود بكم قليلا إلى الوراء، حتى نضع المشكلة في إطارها العام الأصلي، وأكتفي بالإشارة، والفاهم يفهم:.
نحن نعيش يا سادتي حالة فريدة بفضل سياسيينا وحكّامنا منذ الثورة وإلى اليوم.. أنزلها الله علينا مثل الصاعقة.. هي حالة صاغتها التناقضات سواء في طريقة تفكيرهم أو انفعالاتهم، وحتى في تسيير البلاد. ولعلّ الصفة الوحيدة التي تنطبق عليهم هي صفة " الفاشوش"، والفشفشة في المعاجم القديمة " هي ضعف الرأي... ".
أعترف أنّني نسيت هذه العبارة، لأنّ سياسيينا ومحلّلينا تركوها. لكن الشروخ التي أصابتنا هذا الأسبوع أحيتها في ذاكرتي، فإذا بي أجدها عبارة بليغة بعد أن كنت أراها سمجة، وصادقة بعد أن كنت أعتبرها مفرغة من المعاني. .
وأنا واثقة أنّك حرّرت موضوع إنشاء في هذا المعنى، واليوم ألقي عليك هذا السؤال من جديد، لا باعتبارك تلميذا نجيبا يصف شعوره بعد جولة في ربوع بلاده أو بعد فسحة مع عائلته؛ وإنّما لأقول له: صف شعورك وأنت تستمع إلى حديث الشعب إليك أمس من ساحة محمد علي إلى ساحات صفاقس، صف شعورك وكأنّك تتلقّى لأوّل مرّة انطباع هذا الشعب بعد تجربة مرّة عاناها معك في تأمين قوته وقوت أبنائه..
ها نحن على أبواب ذكرى "الثورة"، مضى عليها ثماني سنوات. وإن طلب منّا تقديم ملخّص شامل لهذه الفترة، أو الوقوف عند بعض من الإيجابيات لبقينا صامتين، ولتساءلنا عن أيّ إنجاز يحقّ لنا أن نفخر به؟ حريّة التعبير؟ طيّب، ولكن ما فائدة أن تتكلّم وتنقد وتوجّه ولا من مصغ أو مجيب، تُحذّر فإذا بالأمور تتفاقم وتزداد تعقيدا. الفساد صار معلنا، والحديث عنه ممجوج. سياسيون ينبتون مثل الأعشاب الطفيلية ، وبقدرة قادر يتحوّلون إلى رموز قيادية، وقد نفِخَ في صورهم.. آخرون وعدوا وخذلوا في يوم وليلة، واليوم يقفون من جديد أملا في وعد جديد..